د. أكرم شمص | خاص الناشر
مقدمة
في الآونة الأخيرة، تصاعدت التصريحات الإسرائيلية التي تشير إلى استعدادات لحسم النزاع مع “حزب الله” في لبنان، مع تهديدات بشن عملية برية. هذه التهديدات تأتي بالتزامن مع تدريبات ميدانية تعزز الجاهزية العسكرية الإسرائيلية على الجبهة الشمالية. ومع ذلك، هناك عوامل عديدة تمنع نشوب حرب شاملة، مثل قوة حزب الله في إحداث دمار واسع بـ “إسرائيل”، والخسائر البشرية المحتملة، والموقف الأميركي الرافض لهذه الحرب. وتثير هذه التصريحات تساؤلات حول مدى جديتها: هل هي تعبير عن خطط فعلية لتوسيع الحرب أم مجرد رسائل سياسية موجهة للاستهلاك الداخلي والخارجي؟ وقد ازدادت حدة هذه التهديدات بعد رد حزب الله على استشهاد قائده العسكري فؤاد شكر، حيث سعت “إسرائيل” لتعزيز موقفها الرادع في ظل ربط حزب الله جبهة جنوب لبنان بجبهة غزّة. مع ذلك، تواجه الحكومة الإسرائيلية تحديًا كبيرًا يتمثل في نزوح الإسرائيليين من الشمال والضغوط الداخلية المتزايدة. وعلى الرغم من الدعم الشعبي للحرب، خاصة من النازحين واليمين الإسرائيلي، إلا أن الخسائر البشرية والدمار المحتمل بالإضافة إلى الموقف الأميركي تشكّل عوامل رادعة. حتّى الآن، تبدو التهديدات ضمن إطار التهويل أكثر من كونها استعدادات فعلية لحرب شاملة، ويُتوقع أن تستمر حالة الاستنزاف إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، في وقت تواصل فيه “إسرائيل” رفع جاهزيتها العسكرية تحسبًا لأي تصعيد محتمل مع حزب الله، إضافة إلى قوة حزب الله وفرضه معادلات جديدة وتمسكه بالإرادة والمقاومة.
التحوّل الأيديولوجي والعسكري لحزب الله في الجبهة الشمالية خلال العقود الماضية
منذ تأسيس حزب الله في أوائل الثمانينيات، تحوّل الحزب من حركة مقاومة محلية إلى قوة عسكرية إقليمية لها تأثيرات عميقة في الشرق الأوسط. ومع تصاعد التوترات بين حزب الله و”إسرائيل”، أصبحت الجبهة الشمالية للبنان مركزًا رئيسيًا للصراع المستمر بين المقاومة الإسلامية والكيان الإسرائيلي. وقد تمكّن حزب الله من فرض معادلات ردع جديدة أعادت تشكيل طبيعة الحرب، حيث اعتمد على إرث طويل من العقيدة المقاومة المستندة إلى القيم الوطنية والدينية، التي عززها الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، في خطاباته ومواقفه.
تمكّن حزب الله من تطوير قدرات عسكرية متقدمة جعلته قوة إقليمية لا يستهان بها. ومع تركيزه على الجبهة الشمالية مع “إسرائيل”، أصبح لهذه المنطقة أهمية كبرى في الصراع المستمر. تبرز قوة حزب الله من خلال عدة عناصر:
- أرادة المقاومة: الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله كرّر مرارًا أن حزب الله لم يتراجع في مواجهة العدوان. اليوم، يواجه الكيان الإسرائيلي مقاومة شرسة أصبحت تُعدّ حركة إستراتيجية محكمة. تُلهم المقاومة برؤى وتوجيهات قادة مثل الإمام المغيب السيد موسى الصدر، الذي قال: “السلاح زينة الرجال”، مؤكدًا أن السلاح ليس مجرد أداة حرب، بل رمز للعزة والدفاع عن الكرامة والأرض. هذه الفلسفة لا تزال تُلهم المقاومة والتي تبنت قيم الصدر في العمل المقاوم.
- الإرث العقائدي: وصية السيد عباس الموسوي “حفظ المقاومة” لا تزال تجسد قلب مشروع المقاومة، حيث تتمسك هذه الحركة بضرورة الحفاظ على قوتها وتطورها في مواجهة التحديات. وكما قال الشيخ راغب حرب “المصافحة اعتراف والموقف سلاح”، يُعتبر هذا الموقف جزءًا من إستراتيجية المقاومة التي ترفض أي شكل من أشكال التطبيع أو التهاون مع العدوّ الإسرائيلي. هذه المبادئ تشكّل قاعدة صلبة لفكر المقاومة، وتعزز استمراريتها وصمودها أمام الضغوطات المختلفة.
- الإرث الجهادي: أما القادة الميدانيون أمثال الشهيد القائد عماد مغنية والشهيد القائد فؤاد شكر، فقد جسدوا ببطولاتهم وإبداعاتهم العسكرية مفهوم المقاومة كقوة تتطور مع الزمن، قادرة على إبداع وسائل جديدة لمواجهة العدو. كما أن إبداعات الشهيد المبدع حسان اللقيس في تطوير القدرات العسكرية والتكنولوجية لسلاح الجو في حزب الله أسهمت في تحويل المقاومة إلى قوة إستراتيجية على مستوى المنطقة.
- التطور العسكري: حزب الله يمتلك ترسانة صاروخية ضخمة، بما في ذلك الصواريخ الدقيقة التي تستطيع إصابة أهداف إستراتيجية داخل عمق الكيان الغاصب “إسرائيل”. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الحزب على تقنيات حديثة تشمل الطائرات المسيّرة والأنظمة السيبرانية، مما يجعله في موقع قوة هجومية ودفاعية. • البنية التحتية العسكرية: يعتمد حزب الله على شبكة واسعة من الأنفاق المتوسطة والكبيرة (عماد 4) والمخابئ، ما يجعله مستعدًا لأي مواجهة طويلة الأمد ويُصعّب على “إسرائيل” شن هجمات جوية فعالة ضدّه.
العقيدة المقاومة
الأساس الأيديولوجي والإصرار على النصر والتحرير
يعتمد حزب الله على عقيدة مقاومة متجذرة في القيم الدينية والوطنية، مما يعطيه قوة لا تتزعزع في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والدولية. هذه العقيدة تستند إلى مبادئ التضحية والوحدة والرفض القاطع للاستسلام:
• التضحية والشهادة: تُشكل هذه القيمة جوهر فكر المقاومة، حيث يبرز دور الشهادة كأعلى قيمة للدفاع عن الأرض والكرامة. سماحة السيد حسن نصر الله دائمًا ما يشير إلى أهمية الاستعداد للتضحية في مواجهة التحديات.
• الثلاثية الذهبية بين الشعب والجيش والمقاومة: يعتمد حزب الله على تعزيز الروابط بين هذه القوى الثلاثة، مما يجعل المقاومة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع اللبناني ككل. شعار “الشعب، الجيش، المقاومة” يُعدّ تجسيدًا للرؤية الإستراتيجية التي تسعى إلى تحقيق الأهداف المشتركة.
الشخصيات والقيم لدى حزب الله تشكّل نسيجًا قويًا ومتينا للمقاومة التي استطاعت بفضل هذه الرؤية التكاملية بين السلاح والموقف والتخطيط الإستراتيجي أن تفرض معادلات جديدة على الكيان الإسرائيلي، وأن تحافظ على إرث المقاومة الذي بدأه هؤلاء القادة العظام.
المعادلات الجديدة
خطاب السيد حسن نصر الله وتأثيره في الصراع
سماحة السيد حسن نصر الله، لعب دورًا محوريًا في تحديد ملامح المعادلات الجديدة في الصراع مع “إسرائيل”. خطابه الشهير الذي أعقب حرب تموز 2006، والذي أرسى معادلة “توازن الرعب”، لا يزال يمثل علامة فارقة في تاريخ الصراع. ومن خلال معادلاته الجديدة، قدم نصر الله عدة رؤى إستراتيجية:
- تهجير مقابل تهجير: في خطابه الأخير يوم الأربعين، شدد نصر الله على أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على تهجير السكان اللبنانيين دون أن تواجه نفس المصير. إذا استمرت في تهجير المدنيين وتدمير المنشآت اللبنانية، فإن المقاومة ستكون مستعدة للرد بالمثل، وتهجير المستوطنين في الشمال الإسرائيلي.
- التدمير المتبادل: مع تزايد قدرات حزب الله العسكرية، أصبح لديه القدرة على تهديد البنية التحتية الإسرائيلية الحيوية. السيد نصر الله أوضح أن أي هجوم إسرائيلي كبير سيتبعه رد مكافئ من حزب الله، ما يفرض على “إسرائيل” حسابات معقّدة قبل اتّخاذ أي خطوة تصعيدية.
- الدفاع والهجوم: بينما كان حزب الله في بداياته يعتمد على إستراتيجيات الدفاع فقط، فإن تطوّراته العسكرية الأخيرة مكنته من اعتماد نهج هجومي أيضًا. لم يعد الحزب يكتفي بالدفاع عن لبنان، بل أصبحت لديه القدرة على شن هجمات إستراتيجية تهدف إلى تغيير موازين القوى على الأرض. العلاقات الإقليمية ودور إيران
لا يمكن فهم قوة حزب الله من دون النظر إلى دعمه من قبل إيران. منذ تأسيسه، حصل الحزب على دعم عسكري ومادي كبير من الحرس الثوري الإيراني، الذي ساهم في تعزيز قدراته العسكرية. إيران تنظر إلى حزب الله كجزء من “محور المقاومة” الممتد من طهران إلى بيروت مرورًا بدمشق والعراق واليمن، وهذا المحور يشكّل تحديًا كبيرًا للهيمنة “الإسرائيلية” والأميركية في المنطقة.
التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للجبهة الشمالية على “إسرائيل”
الصراع على الجبهة الشمالية لم يعد محصورًا في المجال العسكري فقط، بل يمتد إلى التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية داخل “إسرائيل”. النزوح الجماعي للمستوطنين من المناطق الشمالية والخسائر الاقتصادية الناجمة عن تعطيل الأنشطة التجارية والصناعية وضعت الحكومة الإسرائيلية في موقف صعب.
اقتصاديًا، تعطلت الأنشطة التجارية، وتكبد الكيان خسائر فادحة في الزراعة والبنية التحتية. تدمير المنشآت الصناعية وإخلاء المستوطنات أديا إلى شلل في حركة الإنتاج والتجارة، وهذا بدوره أثّر على مجتمع الكيان الغاصب بشكل شامل. حيث يعتمد اقتصاد الكيان بشكل كبير على الاستقرار في الجبهة الشمالية، وهذا محال مع توسع رقعة الضربات للمستوطنات والقدرة المتزايدة للمقاومة على الوصول إلى عمق الكيان.
العلاقة بين المقاومة وفلسطين
منذ بداية تأسيسه، كان حزب الله حليفًا قويًا للمقاومة الفلسطينية. سماحة السيد حسن نصر الله أكد أن دعم فلسطين ليس مجرد قضية قومية، بل هو جزء من نضال أوسع ضدّ الاحتلال. فتح جبهة الشمال يأتي كجزء من إستراتيجية لتعطيل خطط “إسرائيل” وإظهار أن المقاومة الإسلامية والفلسطينية تعملان معًا في وجه العدوّ المشترك. حزب الله، من خلال فتح جبهة الشمال، سعى إلى تغيير قواعد اللعبة. في السابق، كانت “إسرائيل” تعتمد على توازن القوّة العسكرية والتفوق الجوي لتحقيق أهدافها، ولكن اليوم باتت المقاومة تمتلك القدرات التي تمكّنها من الوصول إلى عمق الكيان وتوجيه ضربات مؤثرة. هذه القوّة المتزايدة تهدف إلى دعم الشعب الفلسطيني والمقاومة في غزّة، ومنع الكيان من تحقيق أي مكاسب على جبهة واحدة. فتح جبهة الشمال هو خطوة إستراتيجية لتعطيل قدرات الكيان على التركيز على غزّة فقط، كما أنها رسالة واضحة بأن حزب الله لا يقف على الحياد عندما يتعلق الأمر بفلسطين. هذا التحالف بين المقاومة الإسلامية والفلسطينية هو جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى الحفاظ على توازن القوّة في المنطقة ومنع الكيان من فرض سيطرته بشكل كامل.
بيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي
الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، خاطب العدو في أسبوع القائد الجهادي الكبير فؤاد بقوله: ببيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي، وصدق بذلك، وبعد عملية الثأر يوم الأربعين والتي استهدف فيها حزب الله قاعدة الاستخبارات العسكرية “أمان” ووحدة 8200 في غليلوت، مؤكدًا على نجاح الهجمات رغم تكتم “إسرائيل” على الأضرار. واليوم استقالة شارييل بعد 11 شهرًا من الحرب هي نتيجة لعمليات المقاومة التي كشفت عن ثغرات في جاهزية الاستخبارات والقدرات الدفاعية. هذه الاستقالة تثير تساؤلات حول فعالية الاستخبارات الإسرائيلية، خصوصًا مع تصاعد التهديدات الأمنية من جبهات متعددة كغزّة ولبنان واليمن والعراق. ومع زعم العدوّ أن استقالة قائد وحدة الاستخبارات “الإسرائيلية” 8200، جاءت نتيجة التوترات الداخلية في الجيش الإسرائيلي، خاصة بعد الفشل الاستخباراتي الكبير الذي وقع في هجوم 7 أكتوبر. هذا الفشل، الذي وصفه الإعلام الإسرائيلي بأنه نقطة تحول خطيرة، أثار انتقادات واسعة ضدّ الأجهزة الأمنية والعسكرية، بما في ذلك وحدة 8200، التي تُعدّ من أهم وحدات جمع المعلومات في الجيش.
السناريوهات المحتملة
1 – وقف إطلاق النار واستعادة الهدوء:
بعد انتهاء القتال في غزّة، قد تنقل “إسرائيل” قوات إلى الحدود الشمالية لإجبار حزب الله على وقف إطلاق النار، مع تحدي تحقيق هدنة دائمة دون ضمانات دولية.
2 – إنشاء منطقة منزوعة السلاح:
تطلب “إسرائيل” من حزب الله والحكومة اللبنانية سحب القوات من جنوب لبنان، وإذا رُفض الطلب، قد تبدأ عملية عسكرية محدودة لإقامة منطقة أمنية كما في الماضي.
3 – هجوم استباقي:
إذا استمر حزب الله في الهجمات، قد تبدأ “إسرائيل” هجومًا استباقيًا على منظومات الحزب الإستراتيجية، ما يؤدي إلى تصعيد كبير يشمل إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة من الطرفين.
4 – هجوم مباغت واسع النطاق:
قد يؤدي هجوم مفاجئ من أحد الأطراف إلى توسيع المواجهة لتشمل دولًا أخرى مثل إيران وسورية، مما يجعل الحرب متعددة الجبهات.
5 – ضرب إيران:
إذا اعتبرت “إسرائيل” أن إيران هي الداعمة الرئيسية للهجمات، قد تقرر استهداف المنشآت النووية الإيرانية لضرب راعي “محور المقاومة”، رغم المخاطر الكبيرة.
6 – عملية خاصة (إنزال أو اختطاف أو اغتيال):
“إسرائيل” قد تنفذ عملية خاصة لاستهداف قادة بارزين في حزب الله أو القوات الإيرانية، مما قد يؤدي إلى تصعيد كبير في المنطقة إذا رد حزب الله بعمليات انتقامية.
8 – الموقف الأميركي
حذرت الولايات المتحدة الأربعاء من “تصعيد” في لبنان بعدما توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذ عملية عسكرية في ضدّ لبنان، واعتبرت أن اندلاع نزاع من شأنه فقط أن يضر بأمن “إسرائيل”. والموقف الأميركي يتمثل في تحذير واشنطن من مخاطر نشوب حرب بين “إسرائيل” وحزب الله، حيث أرسلت المبعوث آموس هوكشتاين لبحث التصعيد على الجبهة اللبنانية مع المسؤولين الإسرائيليين. الولايات المتحدة تعبر عن مخاوف كبيرة من أن يؤدي فتح جبهة جديدة إلى تداعيات خطيرة، وتحذر من أن الحرب قد تكون لها “عواقب كارثية” ونتائج غير متوقعة. المسؤولون الأميركيون، بمن فيهم جون كيربي، شددوا على ضرورة تجنب الحرب، مؤكدين أن التدخل الدولي قد يكون النتيجة النهائية، مما يؤدي إلى تسوية دبلوماسية.
خاتمة
إن قوة لبنان في مقاومته وإرادته لأن الحرب سجال يوم لك ويوم عليك. لم تسقط الإرادة منذ 1982 تاريخ الاجتياح الإسرائيلي حيث كان شارون يتفاخر بأنه يمكنه احتلال لبنان “بفرقة موسيقية”، إلا أن هذا المنطق تغير بشكل جذري. اليوم الكيان الإسرائيلي يواجه مقاومة شرسة تتجاوز كونها قوة عسكرية تقليدية لتصبح حركة إستراتيجية تعمل بثبات وقوة. في ظل هذه التطورات، يمكن القول إن حزب الله استطاع بفضل قوته العسكرية وإرادته الراسخة تغيير موازين القوى في المنطقة. فالمقاومة الإسلامية بقيادة سماحة السيد حسن نصر الله ليست مجرد حركة محلية، بل أصبحت قوة إقليمية قادرة على فرض معادلات جديدة على “إسرائيل”. بفضل الدعم الشعبي والعسكري والسياسي، تظل المقاومة قوة صامدة في مواجهة الضغوط، وتبقى الجبهة الشمالية رمزًا للتحدي في وجه العدوان الإسرائيلي.