امتلاك القدرة والحديث عنها

حسين عمّار – الناشر |

إنّ الخوف لا ينمو في مكانٍ إلّا حين يموت في مكانٍ آخر. فالخوف الذي نسقيه كلّ يومٍ لدى مغتصبي شمال فلسطين، إنّما يُقابِله بنفس القدر خوفٌ يتضاءل حجمه في جنوب لبنان، فهذا يأكل من ذاك. قِس الأمر منذ خمسة عقودٍ إلى اليوم، ترى بأنّهما مساران متعاكسان. القوّة كذلك الأمر، لا تنمو في مكانٍ إلّا حين تتضاءل في مكانٍ آخر. فتعريف الضعف يكون بغياب القوّة، كما لا يمكن تعريف الظلام إلّا بكونه غياباً للنور، هي علاقةً طرديّة إذن وليست صفريّة.

ولا يوجد قويٌّ مطلق وضعيفٌ مطلق، بل هناك سلّمٌ يتّسع لكلّ ما وسعه تاريخ البشرية من مصاديق في الصراعات والحروب و قصص السعي نحو السلطة.
كانت هذه مقدّمةً ضروريةُ لبحث فكرة هذا المقال الظاهرة في عنوانه؛ أي “القدرة”. القدرة على القول، على الفعل، على الرفض، على التخطيط، القدرة على الاختيار، وهكذا. إنّ نقدك لذاتك – سواءً كفردٍ أو كجماعةٍ – في مسألة الصراع مع العدوّ، لا بدّ وأن ينتهي إلى تقييم قدرتك، وإلّا فإنّه لا يعدو كونه جدلاً فكريّاً على هامش الحدث. بكاء البكّائين ونوح النائحين على غزّة ما لم ينتج عنه أثرٌ فعليّ على مستوى القدرة، يبقى مجرّد مشاعر شخصية. اقضِ ليلَكَ ونهارك بشتم الأنظمة والمتخاذلين، لا بأس، فالشتم لا يُزعج أحداً منهم، خاصةً إن كان بصيغة الجمع المجهول. لكن في نهاية الأمر، لا بدّ وأن تصل إلى سبب وقوفك عند حدّ الشتم.


لنأخذ قضيّة العجز العربيّ كمثال، وأقصد به العجز الذي ظهرت به الأمّة العربيّة بمعظمها لناحية التأثير في وقائع الحرب على غزّة. فالشعوب العربيّة التي تقع خارج دائرة التأثير المباشر في الأحداث، والتي تشمل الجميع ما خلا أهل فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، كلّ من سوى هؤلاء قد وَجَد بين يديه جواباً يستطيع – إن أراد – أن يُريح به ضميره المُتْعَبَ من هول المجازر. ذلك الجواب هو باختصار: “لا نستطيع فعل شيء”. وهو جوابٌ صادقٌ إلى حدٍّ بعيد، فبمعزلٍ عن المقاطعة والمناصرة الإعلامية، إنّهم لا يملكون – اليوم – القدرة على التأثير بالميدان، ولو جزئيّا. وهكذا، استفاقت الأمّة عشيّة السابع من أكتوبر على عجزها، واكتشتفت أنّها أمّة الدعاء من فوق التلّ.


لكن كيف وُلِد العجز؟ هل اختفت القدرة يوم السابع من أكتوبر بشكلٍ مفاجئ؟
كلا.. إنّها قصّةٌ طويلةٌ تقودنا إلى اتّفاقيّات العار التي توالت على جسد هذه الأمّة، وتقودنا بعدها إلى ثورات الخبز والحريّة التي أعادت ترتيب أولويّات الناس. إنّ قطار الاستسلام والتطبيع هذا كان يسير بسرعةٍ متصاعدة، وكانت مواجهته في يومٍ من الأيام مكلفة، لكن ممكنة. يومها، ثلّةٌ قليلةٌ فقط هي من اختارت الرفض والوقوف في وجه المحدلة. من رفض بالأمس، وجد نفسه اليوم قادراً ومتحرّراً من قيود الجغرافيا. ثمّ جاء قطار “الحريّة” وقضى على ما تبقّى من أولويّاتٍ في عقول شباب أمّتنا، إلّا ما نَدَر. فَقَد العرب قدرتهم على فعل “ما يجب” تدريجيّاً، ولم يتبقّ على موائدهم سوى فعل ما هو مُتاح. نقد الذات هنا يجب أن يضع الإصبع على موضع العطب الجوهريّ، لا على القشور. كيف وُلد العجز؟ ليقود بعدها إلى العلاج: كيف نُزيل العجز؟ قد تكون الأجوبة مرعبة، أشياء لا يصدّق العقل أنّها قابلةٌ للتحقّق، لكن عملاً بسنّة الماضين من مجاهدي هذه الأمّة، فإنّ ما لا يمكن إتمامه اليوم، يجب التأسيس لإتمامه غداً، وهذا الغد قد يكون بعد 20 سنة أو أكثر! وإلّا، فاستعدّوا من الآن، لترداد مقولة العجز في الغد.


هذا الضعف الذي أصاب أقطاب البلاد العربيّة بعد أن باعت نفسها، تحوّل إلى قوّةٍ لدى العدوّ، وهذا أمرٌ لا يخفى على أحد. لكن على المقلب الآخر، وُلِد أولئك الذين رفضوا، وراحوا يكبرون حتى أصبحوا اليوم كتلةً صلبةً تُدعى محور المقاومة، وقد راكموا قدرتهم على مدى عقود، حتّى أدّت لتشكيل جبهةٍ متلاحمة، تنسّق نيرانها وقراراتها وتجيّر إنجازاتها بين مكوّناتها. شَكْلُ “الجبهة” هذا بما فيه من فعاليّةٍ وتأثيرٍ هو في ذاته مظهرٌ من مظاهر القدرة والقوّة ويقابله ضعفٌ في المعسكر المقابل. هذا الضعف قد لا يكون بالتسليح والاقتصاد والتكنولوجيا، إنّما في أشياء أخرى، كأصل المشروع وفكرة الدولة وعوامل الاستمرار. هذه المقولة لا تتعارض مع فكرة أنّ “إسرائيل” تزداد تسليحاً وقوّةً على مستوى العسكرة والقدرة على الفتك. فبعض التكتيكات من شأنها أن تحوّل سلاحاً عاديّاً إلى سلاحٍ نوعيّ، وتكتيكاتٌ قتاليّةٌ أخرى من شأنها أن تختزل فعالية أسلحة دمارٍ شامل إلى النصف، يرتبط الأمر بطبيعة الطرف الذي يتلقّى الفعل. فأثرُ التهجير على أهل البلاد الأصليّين أقلّ بكثير منه على الغزاة والمهاجرين، نَفَس الجماهير أطول من نَفَس المؤسسات، وهكذا فإنّ القوّة ليست قالباً واحداً نضع فيه أيّ شيء ليعطينا نتيجةً باتّجاه واحدٍ ووفق معيارٍ ثابت. لقد مدّ محور المقاومة ذراعه حتى طالت أماكن لم يقترب منها سابقاً، هذه قدرةٌ يقابلها ضعفٌ لدى كيان الاحتلال أتاح عبور يد المقاومة، هذه هي العلاقة الطرديّة التي أشرتُ إليها. وفي المحصّلة، من الحكمة أن نقف في الوسط، فلا جَزَع يدعونا إلى اليأس، ولا تفاخر يدعونا إلى السُكْر. ما زال أمامنا الكثير، لكنّنا نمشي في طريقٍ ذي جدوى، وهو كذلك حتى لو أخرجنا المعايير الإيمانيّة والعقائديّة من التقييم. وعلى عكس ما قد يظنّه البعض، فإنّ أميركا وإسرائيل يعنيهما جيّداً أن ندرك ضعفنا، النقد الموضوعيّ والعلميّ لا يزعجان العدوّ بالضرورة. ما يُزعِجه هو أن يترتّب على الإدراك فعلٌ مّا، وإلّا، فإنّ الحرب كلّها تستهدف الإدراك. يريدون صناعة العربيّ القانع بضعفه وقلّة حيلته، شيءٌ يشبه المشروع الذي جاء به “دايتون” إلى الضفّة الغربيّة في مطلع الألفية، لكن على مقياسٍ أوسع بكثير، العربيّ المهزوم من الداخل الذي ينتهي معه الصراع إلى الأبد. ونحن نريد صناعة النقيض تماماً، لنصبح أمام حربٍ على النموذج البشريّ.


فارقٌ كبيرٌ إذن بين أن تفكّر وتتدبّر لتصبح شيئاً أفضل، وأن تستعرض مهاراتك المعرفيّة وقدرتك على الملاحظة. والتفت أنّ نيّتك لا تنفع كثيراً في هذا المجال إن لم تتمتّع بالحكمة اللازمة. فالمشكلة قد تكون في نفس كلامك وقد تكون أيضاً في الوعاء الذي ينزل فيه، أو الشكل الذي يخرج به. أقول هذا وقد خاطبت نفسي به سابقاً؛ نحن أمام حدثٍ جلل، إنّها الحرب، بأل التعريف، الحرب التي انتظرناها لسنوات، المواجهة الكبرى التي تتّسع رقعتها في كلّ ليلة. وأمام حدثٍ جللٍ كهذا لا بدّ من أن نعيَ عواقب الكلمة والموقف. طائرات الاحتلال تغتال قادتنا في وضح النهار منذ بداية الطوفان، أمرٌ سيٌّ بطبيعة الحال، ويستحقّ النقاش والتقييم، بشرط أن يكون في موضعٍ ينفع بالمعالجة، كأن يسلّط هذا النقاش الضوء على خطورة الهواتف الذكيّة والحذر في حيازتها فضلاً عن استخدامها. لكن حين يتحوّل هذا الموضوع إلى ثغرةٍ تدخل منها الهزيمة إلى العقل والروح، فهذا هو الوعي الملعون.


قيل أنّ الساكن لا يُخطئ، قليل العمل ومسلوب القدرة لا يُخطئ، لهذا تجدون مادّةً غنيّةً للجدال والنقاش عندما يتعلّق الأمر بأداء جبهة المقاومة. أنا أؤمن بأنّ انتقاد أداء المقاومة في العلن لا يجوز، بل حتى في الغرف المغلقة إن لم يُراعِ الحدّ الأقصى من اللباقة والأدب لا يجوز، لكن لعلمي بأنّ هناك الكثير ممّن لا يلزمون أنفسهم بمثل هذا الحكم، أريد الإشارة إلى مسألةٍ تنفع في تهذيب النقد، ويمنعه من الانحراف بصاحبه. في بداية افتتاح جبهة الإسناد في جنوب لبنان سقط الكثير من الشهداء، ورغم تكيّف المقاومة مع الظروف المستجدّة ما زال هناك شهداء، ما معنى هذا الأمر؟ هناك كلفةٌ لا بدّ من تحمّلها لتحقيق الفعاليّة، إيذاء العدوّ المختبئ خلف دشمه ومواقعه يحتاج مناورةً عاليةً من رماة المقاومة، ما يعني حركةً أكثر وانكشافاً أكبر أمام طائرات الاستطلاع، ولهذا ندعوهم بالاستشهاديّين. وهكذا بالنسبة للقادة المعرّضين للاغتيال، لو كان هدفهم تفادي الموت لما دخلوا في الحرب أصلاً، لكنّ الهدف شيءٌ آخر، السلامة هي شرطٌ من الجيّد تحقيقه، لكنّها ليست شرطاً أصليّاً في العمل. التقييم دون الالتفات إلى أصلٍ كهذا يُعدّ جلداً للذات، وهذا مثالٌ ينطبق على الكثير من المواضيع. أكتبُ عن هذه الأمور لأنّني أقرؤها وأسمعها كلّ يومٍ وفي كلّ مكانٍ، على وسائل التواصل في البيوت وفي الشوارع وعلى المقاهي، أفكارٌ وملاحظاتٌ وحسرةٌ وتشاؤم. لكن مهلاً، هل تريدون تغيير العالم بالمجّان؟

اساسيالمقاومةلبنان