ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية: أوكرانيا وغزّة نموذجًا

د. أكرم شمص | خاص الناشر

تشهد السياسة الخارجية الأميركية تباينًا واضحًا في التعامل مع الأزمات الدولية، وهو ما يبرز بشكل جلي في تعاطيها مع الصراعين في أوكرانيا وغزّة. هذا التباين يعكس ازدواجية المعايير التي تتبنّاها واشنطن، حيث تتعامل مع كلّ صراع وفقًا لمصالحها الاستراتيجية والسياسية، مما يترك آثارًا عميقة على الديناميكيات الجيوسياسية العالمية، خاصة في الشرق الأوسط.

الازدواجية الأميركية في التعاطي مع حرب أوكرانيا وغزّة
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والهجوم الإسرائيلي على غزّة، برزت ازدواجية واضحة في سياسات الولايات المتحدة تجاه هذين الصراعين. فرغم التشابه الكبير بين المواقف الإنسانية والقانونية المتعلّقة بحقوق الشعوب وضرورة إنهاء العنف، تتّخذ الولايات المتحدة مواقف متناقضة تعكس حسابات سياسية واستراتيجية معقّدة.

الموقف الأميركي من حرب أوكرانيا
منذ بداية الحرب الروسية – الأوكرانية، كانت الولايات المتحدة في طليعة الدول التي أدانت بشدة الغزو الروسي، واصفة إياه بانتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الإنسان. لم تكتفِ واشنطن بالإدانة، بل قدمت دعمًا سياسيًا وعسكريًا هائلًا لأوكرانيا، بما في ذلك حزم مساعدات مالية وعسكرية ضخمة، وتسليح الجيش الأوكراني بأحدث التقنيات. كما قامت بحشد المجتمع الدولي لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا بهدف الضغط عليها لإنهاء الحرب.

الموقف الأميركي من الهجمات على غزّة
في المقابل، يختلف الموقف الأميركي جذريًا في التعامل مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وخاصة في ما يتعلق بالهجمات الإسرائيلية على قطاع غزّة. فبدلًا من إدانة القصف الإسرائيلي وعمليات الإبادة التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية، تقف الولايات المتحدة داعمةً لـ”إسرائيل”، مبررةً تلك الأعمال بأنها دفاع عن النفس في وجه “الإرهاب”. ولم تقتصر واشنطن على الدعم السياسي فحسب، بل استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع أي قرارات تدين “إسرائيل” أو تطالب بوقف إطلاق النار.

الخلفيات الأيديولوجية والاستراتيجية للسياسة الأميركية
تنبع هذه الازدواجية من خلفيات أيديولوجية واستراتيجية معقّدة. فعلى الرغم من الترويج الأميركي لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، تأتي الحسابات الاستراتيجية في المقدمة عند تحديد مواقفها الخارجية. في أوكرانيا، ترى الولايات المتحدة صراعًا بين الديمقراطية والديكتاتورية، وتعتبر أن دعم أوكرانيا هو جزء من مواجهة التمدد الروسي وتأمين النفوذ الغربي في أوروبا الشرقية.

أما في غزّة، فتعتبر الولايات المتحدة أن دعم “إسرائيل” يصب في مصلحتها الاستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط. “إسرائيل”، باعتبارها “حليفًا ديمقراطيًا”، تُعد ركيزة أساسية في السياسة الأميركية لضمان أمن المنطقة وحماية مصالحها، وخاصة في مواجهة النفوذ الإيراني وحركات المقاومة في المنطقة.

حرب أوكرانيا والهجمات على غزّة: موقف هاريس وترامب
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، قدمت الولايات المتحدة دعمًا قويًا لكييف في مواجهة الروسي.و كانت نائبة الرئيس كامالا هاريس واضحة في إدانتها للغزو الروسي، معتبرة إياه تهديدًا للنظام الدولي. هذا الموقف تجسد في تقديم دعم عسكري ومالي كبير لأوكرانيا، مما يعكس التزامًا أميركيًا قويًا تجاه حماية سيادة أوكرانيا.

في المقابل، تعاملت هاريس مع الهجمات الإسرائيلية على غزّة بنبرة مختلفة، حيث أكدت على “حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها” دون إبداء نفس المستوى من القلق تجاه حقوق الفلسطينيين ومعاناتهم. هذا التباين يعكس السياسة التقليدية للولايات المتحدة في دعم “إسرائيل” بغضّ النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان.

الرئيس السابق دونالد ترامب، من جهته، حافظ على موقف ثابت بدعمه المطلق لـ”إسرائيل” خلال فترة رئاسته وبعدها. وبينما انتقد إدارة بايدن بشأن تعاملها مع الأزمة الأوكرانية، لم يكن موقفه واضحًا بشأن دعم أوكرانيا بالشكل الذي قدمته الإدارة الحالية. في المقابل، كان واضحًا في دعمه لـ”إسرائيل” ورفضه لأي انتقادات لها، معتبرًا أن أي هجوم عليها هو دعم للإرهاب الفلسطيني.

التصعيد في أوكرانيا وتأثيره على الشرق الأوسط
الهجوم الأوكراني الأخير على منطقة كورسك الروسية، الذي شمل قصف البنية التحتية واستهداف منشآت حساسة، يعكس تصعيدًا خطيرًا في الصراع. هذا التصعيد، إلى جانب الحديث عن استهداف محطات الطاقة النووية، يشير إلى محاولة أوكرانية لزيادة الضغط على روسيا من خلال استهداف البنية التحتية الحيوية. لكن هذا التصعيد لا يبقى محصورًا في أوروبا فقط؛ بل له تداعيات محتملة على مناطق أخرى، خاصة الشرق الأوسط.

مع تصاعد التوترات في أوكرانيا، قد تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى استغلال الوضع لتحقيق أهدافهم في مناطق أخرى. قد يؤدي التصعيد في أوكرانيا إلى تقويض النفوذ الروسي الدولي، مما يفتح المجال لتحركات أميركية وإسرائيلية أكثر جرأة في الشرق الأوسط. هذا قد يشمل تصعيدًا في المواجهات مع محور المقاومة، خاصة في ظل استمرار عمليات الاغتيال التي تستهدف قادة بارزين في هذا المحور.

رد محور المقاومة وتداعيات التصعيد
استهداف قادة محور المقاومة في الشرق الأوسط من قبل “إسرائيل” يساهم في زيادة التوترات في المنطقة. وإن ردود فعل محور المقاومة على هذه العمليات لن يتأخر، ومن المتوقع أن نشهد من إيران ومحور المقاومة ردًّا قويًّا عسكريًا أو ردود فعل قوية.

وإذا استمرت أوكرانيا في تصعيد هجماتها ضدّ روسيا، واستمرت “إسرائيل” في استهداف قادة المقاومة، فقد نشهد تصاعدًا أكبر في التوترات العالمية. قد تسعى روسيا للرد بطريقة غير مباشرة عبر دعم حلفائها في الشرق الأوسط، مما قد يؤدي إلى مواجهات جديدة بين “إسرائيل” ومحور المقاومة، مما يساهم في تعقيد المشهد الجيوسياسي العالمي.

الاحتمالات المستقبلية
يبدو أن التصعيد في أوكرانيا والشرق الأوسط ليس مجرد تطوّر محلي أو إقليمي، بل جزء من لعبة جيوسياسية أكبر. وإن ردود الفعل من محور المقاومة على عمليات الاغتيال الأخيرة، إلى جانب التصعيد الأوكراني ضدّ روسيا، يمكن أن يؤدي إلى تصعيد أوسع في كلا المنطقتين. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة قاطعة على تنسيق مباشر بين هذه الأحداث، إلا أن الترابط بين الأزمات الدولية يجعل من المحتمل أن يؤثر تصعيد في منطقة ما على ديناميكيات الصراع في مناطق أخرى.

الخاتمة
التباين في المواقف الأميركية تجاه الصراعات الدولية يسلط الضوء على ازدواجية المعايير التي تتبنّاها واشنطن في سياستها الخارجية. وفي حين يتم تقديم دعم قوي لأوكرانيا ضدّ روسيا، يتم تبني مواقف متحيزة تجاه “إسرائيل” في صراعها مع الفلسطينيين. هذا التناقض ليس فقط انعكاسًا للمصالح السياسية والاستراتيجية الأميركية، بل يساهم أيضًا في تصعيد التوترات في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط، حيث يمكن أن يؤدي تصعيد الأوضاع في أوكرانيا إلى تأثيرات واسعة على ديناميكيات الصراع في المنطقة، مما يزيد من احتمالات تدخلات دولية أعمق تعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية العالمية.

هذه الازدواجية في المواقف الأميركية تضعف مصداقية الولايات المتحدة على الساحة الدولية. فبينما تروج واشنطن لحقوق الإنسان والقانون الدولي في أوكرانيا، تغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في غزّة، مما يثير انتقادات واسعة ويعزز من صورة الولايات المتحدة كقوة تسعى لتحقيق مصالحها على حساب المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها.

ختامًا، تكشف السياسة الأميركية تجاه حرب أوكرانيا وغزّة عن تناقضات عميقة تعكس ازدواجية في تطبيق المعايير الدولية وفقًا للمصالح الاستراتيجية. هذه الازدواجية لا تقوض فقط مصداقية الولايات المتحدة، بل تسهم أيضًا في إدامة الصراعات وتعميق الانقسامات على الساحة الدولية. في ظل هذه المعطيات، يظل التساؤل قائمًا حول مدى قدرة واشنطن على تحقيق توازن بين مصالحها وقيمها المعلنة في سياستها الخارجية.

اساسياوكرانيا