بعد استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تعالت الأصوات حيال الاختراق الأمني الذي حصل. من هذه الأصوات ما هو صوت المحبّ والحريص، ومنها الحاقد. أصوات تلوم وتدعو للانتباه، وأصوات تمعن في الشماتة، فوجدت نفسي أكتب لأوضح للمحب، ولأقول للشامت ما يلي:
لا شك أن كلّ دول العالم مخترقة من قبل أجهزة الاستخبارات، ولو بنسب مختلفة، وخصوصًا في عالمنا العربي والإسلامي، وإن دولنا العربية والإسلامية، بمعظمها استكملت فيها أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية والإسرائيلية عملها تقريبًا، حتّى غدا رؤوساء جمهورياتٍ عملاء ومخبرين ومنفذين، ومعهم معظم الهرم الإداري والسياسي في هذه الدول، والملفت أننا لا ننتبه إلى هذه الظاهرة الكارثية، ولكن عندما تُخترق إيران بحدثٍ أمني، يبدأ التطبيل والتزمير، فيُقال إيران مخترقة، إيران فيها عملاء.
ولست بصدد التبرير أو الدفاع عن إيران، ولكن الحق يُقال إن الجمهورية الإسلامية تعاني من حربٍ لا تقل عن الحروب العسكرية دموية، في الشق الأمني، وإن حدث أي اختراق، فيُقابله عشرات أو مئات الحالات التي تنجح فيها أجهزة الاستخبارات الإيرانية في إفشال عمليات معادية، ويُسجل لإيران قدرتها على المواجهة وتحقيق انتصارات أمنية بوجه أذكى وأحقر المخابرات الاستعمارية، وعلى رأسها MI6، وCIA، والموساد، حيث لا يمر أسبوع إلا وتقبض الأجهزة الأمنية على شبكة أو أكثر من شبكات أو أفراد عملاء لصالح هذه الأجهزة المذكورة، وللأسف بعضهم القليل يتبوأ مراكز إدارية أو سياسية. وتستطيع معرفة قدرات هذه الأجهزة الاستعمارية، وقد جندت رؤوساء جمهوريات، ووزراء، وكبار الضباط، والسياسيين، في دول وممالك عربية وغير عربية، “فيكاد أن يكون اللاعميل هو الدخيل في هذه المنظومات”، على حد تعبير أحد المهتمين بهذا الشأن.
هذا في السياق المتداول والمعروف، ولكن ما لا نعرفه، أن إيران الإسلام، تعاني من عوامل عديدة، تتحول إلى أسباب مباشرة للاختراقات الأمنية، أو تكون بيئة مساعدة قوية في تجنيد البعض. وسأذكرها محاولًا الاختصار قدر الإمكان، مع تحقيق الفائدة المطلوبة:
- إن ضغط الأجهزة التي تعمل ضدّ إيران، ليس بالأمر السهل، وهو مهول، والدول التي تنخرط في هذه الحرب الضروس تبدأ من الولايات المتحدة الأميركية، مرورًا بالدول الأوروبية، وبعض دول شرق آسيا، ودول عربية، تعمل لصالح CIA، والموساد، وغيرهما، تجعل الاستخبارات الإيرانية والقوى الأمنية في حالة استنفار دائم، ومرهق، وقد يحصل أن تُخترق، ومن يُتابع تفاصيل هذه الحرب، “يشيب شعره”، ونحن لا نرى من هذه الحرب إلا كما نرى جبلًا جليديًا صغيرًا فوق السطح، ولكن الحجم الكبير له يبقى تحت الماء.
- إن نظام الحكم في إيران، ليس نظامًا مغلقًا، ولو كان إسلاميًا، أي أنك تجد فيه من كلّ تشّكلات المجتمع، على تنوعه، وهو مجتمع يحوي كمًا كبيرًا من القوميات والاثنيات والطوائف، وهذا وإن شكّل نقطة قوة على صعيد تمثيل كلّ الاطياف في الإدارة والحكم، ولكنه يحمل في طياته مشاكل متعددة، أهمها في الشق الأمني، حيث بعض القوميات والاثنيات، لا تشعر بالرابطة القوية التي تجمعها بالوطن الفارسي، بقدر ما هي منتمية لقومية لها امتداد خارج البلد، والتي قد تكون معادية لإيران، أو لا مانع لديها من التعامل مع جهات أجنبية، وهذا أمرٌ يحصل لكل الدول التي تحوي بين جنباتها هذا الكم من القوميات.
- إن للاتساع الجغرافي لإيران، وطول حدودها الكبير، والذي يشترك مع بعض الدول غير الصديقة وإن كانت غير عدوة، وبعض الدول المنافسة، وبعض الدول التي تحوي عناصر معادية، ككردستان العراق، وآذربيجان، وإفغانستان، يجعل العصابات تنشط تعمل على إدخال عناصر أمنية، أو تجنيد أفراد على الجهة المقابلة من الحدود، ويُساعد التنوع الاثني الذي أشرنا إليه آنفًا، على هذا الامر، خصوصًا أن بعض القوميات لديها نزعات انفصالية، لاعتبارهم أن إيران ضمتهم على مدى قرون سابقة، وسلختهم عن مناطقهم، حتّى توسع حدودها لتصل إلى بعض الموانع الطبيعية الحامية.
- إن وجود أقلية دينية يهودية في إيران تتمتع بحرية العمل والتنقل والانتماء وممارسة الشعائر، هو أمر يُسجل لإيران الإسلام، ولكن بعض سلبيات هذا الأمر، تتجلى في قيام “إسرائيل” بتجنيد بعضهم، وبعضهم يرفض بطبيعة الحال، ولكن من يقبلون العمل لصالح “إسرائيل”، يشكلون خطرًا أكثر من غيرهم، لأنهم يُتقنون اللغة الفارسية، ولديهم اطلاع كبير على الكثير من التفاصيل الإيرانية، حتّى أن القوى الأمنية، وفي إحدى المرات، قبضت على عائلة يهودية مكونة من تسعة أفراد، استطاع الموساد تجنيدهم جميعًا.
5.تدفع إيران ضريبة فساد النظام البهلوي إلى الآن، فهذا النظام الذي لم يهتم إلا ببعض المدن الأساسية، وتمحور تركيزه على البذخ والترف حد الافراط الغريب، قد حوّل إيران إلى بلد مدمر ومسحوق، إلا بعض المدن، وبعد انتصار الثورة، حاول النظام الإسلامي معالجة الأزمات، وهي بحاجة إلى عشرات السنين إن سارت الأمور بشكلٍ اعتيادي، ولكن جاءت العقوبات الأميركية لتكبل الاقتصاد الإيراني، وتضغط على النظام الثوري، وبنفس الوقت تفتح الطريق لمن يريد التعاون مع المخابرات الأميركية، فتُقدم له الامتيازات، وهذا أيضًا انسحب على قوميات الأطراف، التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، تجعل بعضهم يقعون في فخ التجنيد.
6.بعد انتصار الثورة، أعاد النظام بعض الضباط والموظفين الأمنيين، ليُستفاد منهم في إعادة بناء القدرات الأمنية، وهذا كان مطلبًا ملحًا، وبعض هؤلاء الضباط أبقوا سرًّا على ميولهم السابقة، خصوصًا أن النظام الجديد لم يعاملهم معاملة الشاه الذي كان يغدق عليهم العطايا، ويرفههم ترفيهًا لا يحلم به الكثير من الضباط الأمنيين على امتداد العالم، وهؤلاء عملوا على تجنيد بعض الأفراد، لتنفيذ عمليات داخل إيران، ولحسن الحظ أنهم لم يقدروا على ضرب بنية النظام، ومعظم العملاء تم القبض عليهم، وصدرت بحقهم الاحكام المناسبة.
لم أجد في الكثير من كتب مذكرات رجال الاستخبارات، كجون بيركنز، ومايلز كوبلاند، وكيم فيليبي، أو من المتخصصين في هذا المجال كمارك مازيتي وستيفن غراي، حروبًا أمنية خطرة إلى هذا الحد، كالتي تُشن على إيران، ولم أجد بلدًا يعمل بهذا الجد والهمة، دون كلل، وهو يواجه أعتى الامبراطوريات الاستخباراتية، دون أن يستسلم أو يتعب، وعليه لا مناص من اختراقٍ من هنا أو هناك، ولكن يبقى أن هناك إنجازات تُحقق وإخفاقات يُعمل على معالجة أثارها وتدارك الأسباب، والتي لن تصل إلى حد تدمير الدولة، بل تغنيها تجربة، والسلام.