د. زينب طحان | خاص الناشر
ينحبك، بين إيران وفلسطين ولبنان والعراق واليمن؛ وهي بلدان جبهة المقاومة، خيط عقدي مشترك هو الإسلام؛ وهذا من قرون. ومع ذلك، لم تكن هذه البلدان قريبة من بعضها البعض بالمعنى العضوي – المعنوي في مدماك واحد من الانتماء والهوية والمصير مثلما هي اليوم. لطالما أكد إسلام محمد بن عبد الله (ص) على أنّ المسلمين أمّة واحدة مهما اختلفت الأقطار الجغرافية وتباعدت. وهذا شكّل في العديد من الحقب التاريخية التي عاشها المسلمون وحدة مؤثرة حين توحّدوا ضدّ الغزوين الصليبي والمغولي وغيرهما؛ بصرف النّظر عن التحفظات حيالها ونتائج تلك المعارك.
لكن؛ لا يمكن إغفال آثار تراكمات تاريخية عاشها المسلمون مع ما فيها من الفتن والحروب؛ وصولًا إلى حقبتي الاستعمار الغربي القديم والجديد الذي عمل – ويعمل – بكلّ جهده على إذكاء الفتن الراسخة وإشعالها مرارًا وتكرارًا في مراحل مختلفة من وجوده في أقاليم الدّول العربية والإسلامية، والتي بقيت آثارها حتّى يومنا هذا. وما زاد من ترسيخ وجودها بعض الأنظمة العربية الرجعية التي عمدت إلى إبقاء بذور هذه الفتن موجودة بين مختلف طوائف المسلمين؛ خصوصًا باتّجاه الشيعة المتهمين ظلمًا بصفة “الراوفض” وأنّهم يكرهون السّنة ورموزهم. وهذه أفكار ظلّت معششة في أفكار جمع كبير من مختلف طوائف المسلمين.
مع انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، والصوت العالي الذي صدح به الإمام الخميني الراحل بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية واحتضان القضية الفلسطينية واستضافة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل “ياسر عرفات” الشهيرة أنذاك؛ حين وصل مع وفد من المنظمة إلى طهران في العام 1980 لتهنئة الإمام الخميني والشعب الإيراني بانتصار الثورة الإسلامية. فقد كانت طائرة الوفد أول طائرة تحطّ في مطار طهران بعد إعلان انتصار الثورة بالرغم من الإجراءات الأمنية الشديدة حينها. وقد واجه الوفد صعوبة حتّى تمكّن من الخروج من المطار بسبب حشود المستقبلين التي كانت بانتظاره، وقال وقتها عرفات بأنّ الإنسان لا يحتاج إلى إذن لكي يأتي إلى بيته، ورأى أنّ يوم انتصار الثورة من أعظم أيام النصر للمسلمين في العالم. توجّه الوفد إلى لقاء الإمام الخميني، الذي رحّب بهم في مكان إقامته؛ وقال لهم: “كما كنّا معكم، سنبقى معكم، ونأمل أن نواجه المشكلات معًا مثل الإخوة”. يومها هنأ عرفات الإمام ووصف الثورة الإسلامية بالزلزال الذي هزّ العالم كلّه، وانعكست هذه الزيارة على نطاق واسع في صحافة الدّول الأجنبيّة والدّول العربية.
ما تزال الجمهورية الإسلامية في إيران سائرة على النهج الوحدوي الإسلامي الذي خطه لها الإمام الخميني الراحل؛ فخليفته الإمام الخامنئي قائد الثورة، أيضًا، هو الأشد حرصًا على استكمال عناصر هذه الوحدة الجامعة، إذ ما تزال القضية الفلسطينية السّمة الأبرز في سياسة الجمهورية الخارجية، وحتّى إنّها الأكثر حضورًا في وجدان شعبها وقلبه وعواطفه. وأصدق مثال على ما نقوله هو تبني الجمهورية لحركات المقاومة الفلسطينية على اختلافها؛ وخصوصًا العسكرية والجهادية منها؛ وما تقوم به من دعم متواصل بالسلاح حينًا وبالدعم المعنوي والإعلامي والجماهيري حينًا آخر؛ إضافة إلى تبنيها في مختلف المحافل الدولية؛ فالجمهورية تُعدّ الدولة الرائدة في العالم كله في حمل لواء المقاومة الفلسطينية.
اليوم؛ بعد عملية “طوفان الأقصى” المباركة أضحت الجمهورية أكثر قربًا من حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وتأكد العدوّ قبل الصديق أن شعارات الجمهورية ليست مجرد شعارات تحملها إعلاميًا للتباهي والادّعاء، مثلما هو واقع الحال مع أنظمة العديد من الدول العربية والإسلامية، والتي أغلبها يقيم علاقات على مختلف الأصعدة مع هذا الكيان الصهيوني الغاصب مطبّعة ومسوّغة لهذا التطبيع بزعم الحرص على سلام شعوبها ورفاهيتها.
لذلك؛ من يعرف مسار الجمهورية الإسلامية “الشيعيّة” في إيران هذا لا يستغرب أبدًا الموقف الحازم الذي اتّخذته إزاء استشهاد “السّني” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الحاج إسماعيل هنيّة. ويأتي استشهاد القائد الجهادي الكبير السيد فؤاد شكر (السيد محسن) في لبنان ليشكّل مع شهادة هنيّة طرفي الجسر للوحدة التي يفترض أن تتجسد ليس في منطقتنا وحسب، بل في مختلف أقطار العالم العربي والإسلامي.
إنّ هاتين الشهادتين اللتين تزامنتا في الوقت والتاريخ، في إيران ولبنان وبينهما فلسطين، ولم يُفصل بينهما أكثر من ساعات، ما هو إلا دليل صارخ على كشف الادّعاءات والفتن التي تزعم كذبًا وافتراء كراهية الشّيعة للسّنة. وقبل هذين الحدثين الكبيرين، كان لافتًا وبقوة وقوف حزب الله “الشيعي” وإيران “الشيعية” وحركة أنصار الله في اليمن “الشيعية”، أيضًا، والمقاومة الإسلامية العراقية “الشيعية” إلى جانب حركة حماس “السنيّة” وباقي المقاومات “السنية” الفلسطينية في معركتها “طوفان الأقصى” وفتح الجبهات العسكرية للدعم والمساندة. هذه الوقفة التاريخية التي لم يسبق لها نظير بالشكل الذي تجلّت به أزاحت غطاء التضليل الممارس طويلًا ودهورًا على الشعوب العربية والإسلامية.
استشهاد السيد محسن الجهادي اللبناني الشيعي وإسماعيل هنيّة الجهادي السّني، كلّ في بلد وبفارق ساعات ليس أكثر على يد العدوّ الصهيوني، على طريق القدس المحتلّة، سيعمل – بل بدأ منذ لحظاته الأولى – على إزاحة كلّ أشكال التزييف والحملات المغرضة العاملة لخلق فتن جديدة بين المسلمين السّنة والشيعة عند شعوب هذه الأمّة. وإن كنّا نلاحظ أنّ هذا الغشاء المضلّل قد بدأ ينزاح رويدًا رويدًا بعد الانتصار التاريخي الإلهي الكبير في حرب تموز العام 2006 في لبنان ضدّ العدوان الصهيوني؛ وتأتي حاليًّا معركة “طوفان الأقصى” لتكمل تذويب هذا الغشاء المضلّل.
إنّ مسيرة الدّم الشّيعي والسّني الذي يُبذل على طريق القدس، اليوم، هو الأمل الكبير في أن تتعظ شعوب الدول العربيّة والإسلاميّة في أقطار هذا العالم وتتيقن أنّ الوحدة هي التي تعيدنا أمّةً جديرة بالحياة من جديد، أمّةً جديرةً بأن تعيد أو أن تستكمل صروح الحضارة الإسلاميّة التي بناها لنا أجدادنا القدامى من السنّة والشّيعة على حدّ سواء. لذلك كلّ الأبواق العدائيّة والمضلّلة، والتي ما تزال تطلق على إيران الإسلامية صفة “المجوسيّة”، لم يعد ينفع معها هذا الزعم الزائف، فقد باتت الشعوب ترى وتسمع، بفضل تطوّر تكنولوجيا الإعلام الواسعة والمنتشرة في كلّ أصقاع الأرض، الكثير من الحقائق بصورها وبريقها.
لذلك؛ التاريخ دومًا يعود ويصحّح نفسه مع دورة الأجيال، وأجيالنا الإسلامية اليوم بات يتأكد لها أنّه لطالما كانت فلسطين، وهي قبلة أجدادهم الأولى، البوصلة التي تحرّكنا ونتحرّك معها جميعنا. وما نسطره من انتصارات سيرسم لنا مستقبل وحدة إسلامية لا تفرقها الفتن مهما اشتدت علينا، فقد “ولّى زمن الهزائم وأتى زمن الانتصارات”.