محمد علي | خاص الناشر
لا يخفى أنّ في الوسط الشّيعيّ عدّة أنماط. مِن الشّيعة مَن هو بعيد عن الدّين فكريًّا وعمليًّا، ومنهم من يفهم التَّشيُّع على ضوء أُسُس ومنطلقات المادِّيَّة والحداثة، ومنهم من يقوم تشيُّعه على نظريّات المؤامرة والانغلاق المتطرّف. فالأوّل يعيش الحياة العلمانيّة واللّادينيّة، والثّاني والثّالث في طريقهما إلى تلك الحياة بسبب انفرادهما وتمرُّدهما، سواء علما أم لم يعلما.
في المقابل، يوجد نمط من التَّشيُّع يمثّل امتدادًا لتجربة المرجعيّة الدّينيّة عبر التّاريخ، يأخذ منها فهمه للدّين ويعمل بما تحدّده من تكاليف، فهو نشأ وتكوّن تحت ظلّ قيادة الفقهاء ولم ينفكّ عن المتسالم عليه بينهم في الفقه والعقيدة، بل وفي السّياسة كذلك، لا سيّما في الموقف تجاه القضايا الكبرى.
لكنّ الحديث عن هذه الأنماط فيه شيء من الإجحاف، لأنّه يوكل تقييم الأُمور وتحليلها إلى عمومات قد يفتقر تطبيقها في الخارج إلى الدِّقَّة نتيجة عدم اعتبار المستند العلميّ، فيقع القارئ للواقع حينئذٍ في أُمور هو وغيره بغنىً عنها. هذا وقد يضطرّ المنتمي إلى النّمط الصّحيح عن وعي بيّنة، لاهتمامه ببعض الأُمور المحوريّة الدّينيّة والسّياسيّة، إلى التّنميط والتّصنيف بهذا الشّكل لوضع النّقاط على الحروف.
غير أنّه قد يكون الأقرب للتّقوى أن نكتفي بتقسيم الشّيعة إلى قسمَي “الخواصّ والعوامّ”، كما هو الحال مع أيّ مجتمع آخر، بل ومن باب الالتزام بمصطحات من نواليه. ذلك أنّ في الشّيعة من لديه القدرة على التّحليل وإنّما تُحرّكه الأفكار، وفيهم من هم مجرّد أتباع وأرقام أيضًا. طبعًا يختلف هذا التّصنيف عن الأوّل – والذي اقتصرت فيه على وصف الأنماط بشكل عام لئلّا أقع في محذور تحديد الجهات بأسمائها وإحداث البلبلة – من جهة أنّه ناظر إلى لُبّ القضيّة وأصلها، لا إلى قشورها وفروعها.
وإليك المزيد من التّفصيل لتجلية الأُمور وبيان الحال: باستثناء النّمط الأوّل، والذي هو أشبه باللّانمط لو صحّ التّعبير على نحو تسامحيّ، كلّ الأقسام والأنماط التي ذكرناها تدّعي الأصالة والجدارة.
فالنّمط المادِّيُّ قد جعل من “التّجديد” آلة تدميريّة لهدم الدّين من خلال التّشكيك في ما لا اجتهاد فيه من ضروريّات ومسلّمات؛ يلجأ بدلًا من أن “يستقيم كما أُمر” إلى منهج التقاطيّ يسوّغ له التّماشي مع الخارج العلمانيّ تحت شعار “الوعي” مثلًا، يحكم على كلّ قضيّة لم يتعقّلها بالخرافة، وعلى كلّ نصّ له دور في تحقيق المشروع الإسلاميّ بالضّعف. هكذا يفرّط أتباع هذا التَّيَّار – بل ويستهزئون – بتراثٍ حُفظ بالدَّم منذ زمن الأنبياء (ع)؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وأمّا نمط الانغلاق والتَّحجُّر، والذي هو في جوهره علمانيّ لكن من نوع آخر، فهو عبارة عن حالة نفسيّة تؤدّي بالبعض إلى الجرأة على اتّهام فحول العلم وأساطين الحوزة العلميّة بالتّقصير، بل وبالانحراف والكفر؛ تحثّه على بثّ روح الشّحناء والبغضاء بين المؤمنين. وطبع الحال أنّ مَن يعاني مِن هذه الحالة لا بُدّ أن يميل إلى كلّ ما يناسب هالة “الاستثنائيّة” التي اصطنعها لنفسه، وأن يرفض كلّ ما يدعوه للخروج من زاوية هوى النّفس إلى ساحة “الأُمّة”. لذا تجده يصطفّ إلى جانب الغُلاة في جملة من المعتقدات، حتّى صار “انتظار الفرج” – بتفسيره الأعوج – الذي كان يبرّر به غيابه في اللّحظات المصيريّة ذريعة للتّطبيع والرّكون إلى الظّالمين. ومع ذلك، يزعم أتباع هذا النّمط، كما أُولئك، أنّهم حفظة المذهب وحُماة حدوده.
وأمّا النّمط الأخير، فهو بقيّة مسيرة طويلة من الالتزام بقيادة حفظة المذهب وحُماة حدوده الحقيقيّين، أي الفقهاء الجامعون للشّرائط، الذين لولاهم لما وصل إلينا من التَّشيُّع سوى ما يسلّي أتباع “الوهّابيّة المقنّعة” به أنفسهم في مؤتمرات “التّنوير”، أو ما كان سيبقى لو تمّ إسقاط التّكاليف تحت ذريعة التَّقيَّة – كما يَوَدُّ آخرون – من غرائب وطقوس. بل إنّ ميزة هذا النّمط أنّه يترك الفنّ لأهله؛ فلا هو نمط الإعراض عن الأمر الأوّل والإتيان بخطّة جديدة، ولا هو نمط القفز فوق الصّناعة لتبرير التّخاذل والاكتفاء بما لا يغيظ الطّواغيت.
إنّه نمط من يرجو النّجاة من شدّة الفتن وجليل البلاءات، على أنّه يتضمّن مسؤوليّات جسيمة في ما يتعلّق بالتّعامل مع سائر الشّيعة. وهنا زبدة المقال في ما لو التفتَّ إلى أنّ هذا النّمط لا يتمحور حول شخصيّة قياديّة غير المعصوم، إلّا من ثبت له شيء من ذلك بمقتضى الأدلّة؛ وهو حاصل فعلًا. كما أنّ هذا النّمط ليس خاصًّا بتجربة سياسيّة، بل إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ذراع للمذهب، وليس المذهب ذراعًا لها. والمقاومة الإسلاميّة فرع المذهب وليس المذهب فرع المقاومة، وهي لا تدّعي ذلك أصلًا. لكنّ عدم استيعاب هذه الأُمور قد جعل البعض ينسى وجود الخواصّ والعوامّ ضمن الجسم الشّيعيّ..
من هنا لا بُدّ من السّؤال عن كيفيّة التّعامل مع الأعمّ الأغلب من الشّيعة حول العالم، الذين ليس لديهم تجارب سياسيّة وحزبيّة، وليس واقعهم الحاليّ نتيجة لبلورة الوعي العقائديّ والفقهيّ والأمنيّ والاجتماعيّ بعد تلك المسيرة الطويلة – كالتي مرّ ذكرها – من الرّفض والإباء وإطاعة النّموذج القياديّ الشّرعيّ الغنيّ بالخبرة المتراكمة. كيف أتعاطى مع الشّيعيّ الذي لديه “مؤاخذات وملاحظات” على المقاومة في أدائها السّياسيّ أو عملها المؤسّساتيّ أو هواجسها الثّقافيّة؟
إنّه لمن البديهيّ أنّ مَن كان كذلك مِن دون أن يصل في “اختلافه” إلى حدّ التّآمر على المقاومة بحيث يشكّل خطرًا أمنيًّا على المجتمع المؤمن، ولو عبر العمل الثّقافيّ المبرمج والمشبوه، فهو معذور ما دام ملتفتًا إلى ما تقتضيه التّقوى وأدبيّات الاختلاف من عدم اعتماد أُسلوب الهتك والتّوهين، وإلى ضرورة حفظ المصالح العامّة. مثل هذا لا يُخوَّن، ولا يُقال بخروجه عن الدّين والمذهب بتلك البساطة. كيف ويلزم من ذلك نقض الغرض لأنّه أقرب إلى ديدن العصابات من “روح الجماعة” التي انطلقت المسيرة وما برحت تجاهد من أجلها؟
وحتّى في الأُمور السّياسيّة ذات البُعد الدّينيّ المهمّ؛ أهناك شكّ في أنّ المطالبة بمنهجة الخوض في هذه القضايا بحيث يصبح قائمًا على مقدّمات علميّة، يحمي خطّ الولاية أكثر ممّا يحميه الأُسلوب الخطابيّ الشّعبويّ، وإن كان مخلصًا؟ وهل يتردّد عاقل في أنّ الدّفاع عن الأساس خير من الدّفاع عن النّتيجة؟ فالأوّل لا تتهدّده مبهمات المراحل والتّحدّيات المستحدَثة، بخلاف الثّاني الذي يكون طبعه تحكيم القراءة السّياسيّة التّحليليّة على اعتماد التّحصين المعرفيّ. وبكلمة، لا يوجد شيء اسمه تصدير اليقين، ولو أنّ “البصيرة” قائمة بذاتها لما وجب “التّبيين”.
فما الضّير في أن يكتفي الواحد منّا بذكر الشّواهد التي تدرأ الشّبهة وتردّها، أو بالحكم على المغاير والمعارض بأنّ لديه خللًا في المعرفة الدّينيّة أو الفهم السّياسيّ؟ ثمّ ألا يُحتمل مثلًا التّفاوت في الشّجاعة أو الزُّهد بين أبناء الأُمّة الواحدة؟
إنّ من نِعم الله تعالى أنّ المقاومة لم تَعُدْ حالة غريبة ومجهولة ومستضعفة بالشّكل الذي كانت عليه في السّابق، لكن معنى ذلك أنّ الخطاب الدّينيّ والسّياسيّ الذي يعبّر عن وجدان المنتمين لهذا الخطّ المبارك والرّائد في المشروع الإسلاميّ يجب أن يتناسب مع مزاج التَّطلُّعات الولائيّة، وقدسيّة الأهداف، وأُسلوب القيادة حفظها الله تعالى من كلّ فتنة وبلاء، ومع مستوى التَّطوُّر الذي قد وصل إليه الحزب. تحتاج هذه القضايا إلى تأصيل من قِبل العلماء والمسؤولين والمثقّفين، وأتصوّر أنّ من شأن هذا الضّبط النّظريّ والخطابيّ أن يعالج قضايا عديدة في السّاحة الإسلاميّة إن شاء الله تعالى.