دائمًا كانت ترِدُ في كتب المؤلفين والباحثين أخبار وتفاصيل تلك العلاقات ومحاضر اللقاءات ما بين رأس الكنيسة المارونية ومن يدور بفلكها من سياسيين وإقطاعيين طائفيين تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي مع بداية تكوّن ملامح الدولة اليهودية على أرضِ فلسطين المحتلة ورسم حدودها وامتداداتها على الخرائط في الغرف السرية المظلمة، وأيضًا نصوص الحوارات والنقاشات التي جرت بين أعضاء من الوكالة اليهودية وممثلين عن البطريركية المارونية آنذاك “… والمعضلة ليست في مبدأ تلك اللقاءات ومبتدئها ما دامت مقصورةً على عرض الأفكار والآراء، ومحصورةً في مناقشة التصورات والمقترحات، بل المعضلة في الاتفاقات التي تمخَّضت عنها، مثل اتفاق الكنيسة المارونية والوكالة اليهودية، ففي 30/5/1946 صاغ إلياهو ساسون ويعقوب شمعوني الاتفاق المذكور، ووقعه في القدس برنارد جوزف (صار اسمه دوف يوسف) عن الوكالة اليهودية، وتوفيق عواد عن البطريركية المارونية. وتوفيق عواد هذا غير الأديب اللبناني توفيق يوسف عواد صاحب “الرغيف” و”قميص الصوف” و”الصبي الأعرج”. ويعترف الاتفاق بحق اليهود في أن تكون لهم دولة مستقلة في فلسطين، على أن تقوم في لبنان دولة مستقلة ذات طابع مسيحي..”. (من كتاب – المتاهة اللبنانية، سياسة الحركة الصهيونية ودولة “إسرائيل” تجاه لبنان من 1918 إلى 1959″ – للكاتب الصهيوني رؤوفين آرليخ). ويخوض الكتاب المذكور في العديد من التفاصيل حول هذه العلاقات والخيارات التي كانت متَّخذة من قبل ذاك الفريق بتأييدٍ مباشر من إميل إدّه والبطريرك أنطوان عريضة والمطران أغناطيوس مبارك مطران بيروت للموارنة، وتتالت فضائح اللقاءات التي عقدت منذ العام 1931م بين إدّه المذكور ومندوبي الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية وما طرحه لسلطات الانتداب – الاحتلال الفرنسي يومها – من فكرة اقتطاع منطقتي صيدا وصور وإعطائهما للكيان الغاصب لتوطين مئة ألف يهودي فيها جنوب نهر الأولي وتهجير المسلمين الشيعة منها نحو العراق وإعادة طرابلس وعكار إلى سورية فقط بسبب أنَّ غالبية سكان هذه المناطق هم من المسلمين السنة وطوائف مسيحية أخرى من غير الموارنة.
لطالما كان لليمين الانعزالي ومن خلفه المارونية السياسية في لبنان امتداداته وأصابعه الخبيثة لدى الطوائف اللبنانية الأخرى من أزلام وضعاف نفوس ممن لديهم عقدة الماروني المتفوِّق والمهيمن، فسقط الكثيرون في أحضانهم وأضحوا بيادق وأدوات في نفوذهم ومخطّطاتهم للهيمنة والتسلُّط. ولطالما ارتكب هذا اليمين أخطاءً مميتةً في السياسة وفي اتّخاذ الخيارات الاستراتيجية والتي دومًا كانت خاسرة بفعل الحماقة المتجذِّرة لدى ذلك الطاقم السياسي المدير والمدبِّر لشؤون الطائفة المارونية الكريمة قهرًا وتسلُّطًا على رقاب أهلها حتّى بات ذاك اليمين الانعزالي أنموذجًا في الخيارات الفاشلة، بداية من العام ١٩٥٨ وأوهام كميل شمعون والحلف الثلاثي وفضيحة السلاح والذخائر من العدوّ “الإسرائيلي” عبر شاه إيران في وقتها مرورًا بخيارات حزب الكتائب والجبهة اللبنانية لاحقًا وحتّى يومنا هذا حيث توالت السقطات في الحرب والسياسة وانخراطًا في المشروع “الإسرائيلي” في المنطقة منذ نشوء هذا الكيان المزعوم وتغوّله الاستيطاني والاحتلالي في فلسطين وسيناء والجولان وجنوب لبنان والذي سبب ويلات على المجتمع المسيحي بشكل عام واليمين المتطرِّف فيه ومن يدور بفلكه بشكل خاص، وآخر سقطاتهم والتي هي لا تعدُّ ولا تُحصى عِظاتهم الأسبوعية وتصريحاتهم المسمومة والطائفية وخطاباتهم الخشبية العفنة التي تبدأ دائمًا باسم اللبنانيين: أيها اللبنانيون، في اختزالٍ لوطنٍ وشعبٍ بأكمله! مهلًا يا هؤلاء؛ عن أي لبنانٍ ولبنانيين تتحدثون! وباسم من منهم؟ وأنتم مَن تمثِّلون؟ وما هي نسبتهم من اللبنانيين حتّى رأيتم أنفسكم بموقع الحديث باسم غالبيتهم؟
لقد فات هؤلاء ما يرِدُ في كلماتهم من مغالطات وافتراءات ونعوتٍ وتسميات وملاقاة للغة العدوّ “الإسرائيلي” ومحاكاة لهواجسه وخوفه بل رعبه من المقاومة وجهوزيتها وردّها الحاسم على العدوان وقدراتها النوعية التي هي موضع رضى وتقدير من معظم الشعب اللبناني بمختلف قواه وطوائفه ومناطقه ودورها الأساس في الدفاع عن لبنان وسيادته وشعبه، هذه المقاومة التي هي معادلة القوّة للبنانيين بوجه العدوان وخلق توازن رعبٍ في مواجهته، هذه المقاومة الضامنة للاستقرار السياسي للبلاد وديمومة مؤسساتها وهي خلاف تلك الميليشيات التي تم حلَّها بعد اتفاق الطائف وإنهاء الحرب الأهلية في لبنان بل هي أرقى وأنقى وأسمى وأشرف من سلوكيات وأفكار وعقائد تلك الميليشيات المنحلّة والتي مارست البلطجة والتهديد والإجرام والعمالة للإسرائيلي والاغتيال وأعمال التفجير بحقِّ اللبنانيين وخطفهم وقمعهم وإعدام ضباط وجنود الجيش اللبناني وقتل الأبرياء ورميهم في أعماق البحار وإذلال المواطنين العابرين على حواجزهم وفرض الخوات عليهم وما زالت حتّى اليوم تراودهم تلك الأحلام بالفيدرالية والتقسيم و”حالات حتمًا” ودويلة الحوض الخامس والإدارة الميليشياوية، ويبدو أن ثبات هذه المقاومة ومجاهديها في مقارعة العدوان الصهيوني وتضحيات أهلها وصبرهم ودماء شهدائها وبصيرة عائلاتهم وآلام جرحاها قد أحرجهم وأوجعهم وأشعرهم بالهزيمة المدويَّة التي بدأت تلوح تباشيرها في الأفق لمشروع التطبيع المشبوه في المنطقة وارتباطهم العضوي به.
إنَّ أي مقاومة قامت بوجه الاحتلال عبر التاريخ حين انتصارها كانت تحكم تلك البلاد التي حررتها أو على الأقل تفرضُ شكل وأنماط الحكم فيها، والشواهدُ كثيرة، إلا المقاومة الإسلامية في لبنان التي لم تكن يومًا خارجة على القانون أو فوقه بل كانت حريصة على السلم الأهلي والعيش المشترك وتآلف اللبنانيين وتوافقهم وتفاهمهم وأكبر دليلٍ على ذلك أولئك الآلاف من عملاء ميليشيا العميل أنطوان لحد المقبور وهو المشكّلُ أصلًا من قوى متعددة كان رأسُ حربتها فلول ميليشيات اليمين الانعزالي وأحزابه التي انتقلت إلى الشريط المحتل بعد انتهاء الحرب الأهلية في الداخل اللبناني مضافًا إليهم من تطوّع أو جُنِّد قسرًا من أبناء تلك المنطقة والذين اندحروا وهزموا مع جيش العدوّ عن جنوب لبنان، اعتقل من بقي منهم في القرى المحررة وسلِّم إلى الدولة ومخابراتها وأجهزتها الأمنية وقضائها، لم تحصل ضربة كفٍّ واحدة أو أيَّةِ عملية ثأرٍ رغم الدماء الكثيرة للشهداء المظلومين ورغم الآلام والمعاناة بسبب التعذيب للمعتقلين في سجون الخيام ومركز الــ17 وداخل الكيان الغاصب، مع العلم وهذا رأيٌ شخصي؛ أنَّ هذا السلوك المتساهل من قبل المقاومة والقضاء اللبناني كان واحدًا من الأسباب الرئيسية لوقاحة وتمادي المواقف العدائية عند البعض وأيضًا شجّعت البعض الآخر على الانغماس بالعمالة للعدو لاحقًا، وأضيف متسائلًا، من قال إن المقاومة الفرنسية قد أخطأت في محاكمها الميدانية بحقِّ العملاء من الفرنسيين المتعاملين مع الاحتلال بعد اندحار الجيش النازي عن فرنسا في العام 1944؟ وأجيب طبعًا بأنَّ أخلاق المجاهدين المقاومين وقيادتهم وانضباطهم وسماحة دينهم ومذهبهم وقرار القائد الأمين كان لهم رأيٌ وسلوكٌ آخر.
لطالما كان ذاك اللبنان الخاص بكم كانتونًا مسخًا يمتدُّ من كفرشيما إلى المدفون وما بينهما جزرٌ أمنية وتقاسم نفوذ وصراعاتٌ دامية وسحقٍ للمعارضين والمعترضين، تحدُّهُ شرقًا مدينة زحلة وغربًا بعض من العاصمة بيروت ملحقٌ بها حاراتٌ هنا وهناك بسبب لعنة الجغرافيا والديموغرافيا بما يشبه إلى حدٍّ ما “لبنان البطريرك عريضة” ومن كان معه في تلك الأيام، واليوم يضافُ إلى المنادين بذاك اللبنان بعض من أحزاب العائلات ونوّابِ الصدفة وفتافيت الأصوات ولصوص الأزمات وفقًا للائتلافات والتحالفات ومصائب المشغِّلين وخطط المموِّلين التي جمعتهم.
ختامًا يجدر بنا القول إنَّ أبناء هذه المناطق التي عمل البطريرك عريضة وفريقه جهدهم لإخراجها من حدود هذا الوطن عند تشكُّله بعد انتهاء الاحتلال الفرنسي، هؤلاء هم كانوا أوَّل المدافعين والمضحّين والمستشهدين في سبيل حفظ حدود هذا الوطن وكرامته وسيادته من إسلاميين ويساريين وقوميين عروبيين، مسلمين ومسيحيين على مرِّ سنين الاحتلال البغيض، على أمل أن لا يستيقظ البعضُ من الشركاء في الوطن متأخِّرًا على حقائق التاريخ والجغرافيا التي لا ترحم.