منذ طوفان الأقصى وبداية الحرب بين المقاومة والعدو الإسرائيلي وفتح الجبهات وتوحّدها، انقسم العالم إلى محورين لم يبق بينهما مكان للحياد، حتى وصل الانقسام إلى داخل لبنان الوطن المنقسم على نفسه فعلًا منذ لحظة تأسيسه، وهو الكيان الغارق في أزمات متنوعة أخطرها أزمة هوية الوطن.
فحتى قبل بداية مواجهات الجنوب مع العدو الإسرائيلي وفتح الجبهة لإسناد ودعم صمود المقاومة الفلسطينية في غزة، جَيّرّت المقاومة الموقع والطبيعة والقدرات والمقدارت للمعركة، ونجحت في إشغال جيش العدو الإسرائيلي بتشتيت قواه البرية من ألوية مدرعات كتائب النخبة والهجوم وفرق المشاة البرية، ما ساهم في إضعاف قدراته داخل المعركة حيث دعمت صمود فصائل المقاومة الأسطوري وتصديها بإفشال أهداف الحرب التي رفع سقفها رئيس حكومة العدو نتنياهو، مدعومًا برباعية إجرام صهيوني ودعم غربي وصمت دولي وتواطوء عربي، حتى دخلت معهم الحرب شهرها التاسع بمخاض عسير لولادة إنجاز أميركي بعملية قيصرية أجهضت فيها طموحات حكومة العدو بتسجيل نصر ينهي فصائل المقاومة، وسقط جنين.
وهم من حملوا سِفاحًا لهدنة يريدها الأميركي مخرجًا لإسرائيل ودورها المبني على القوة والدعم، يمنحها صورة انتصار ولو كان وهميًا، لأنها تتجاوز فيه نتائج المعركة وخساراتها وميزان القوى الجديد بقواعد اشتباك فرضها الميدان بتوسع الجبهة ووحدة الساحات الذين أفقدوا إسرائيل دورها المتقدم عسكريًا، وكشفوا عجزها وأسقطوا نظرية تفوّقها في الشرق الأوسط، فخسرت أسطورة جيشها الذي لا يقهر بعد الصفعة التي تلقتها أجهزتها الأمنية والاستخبارية لحظة عملية طوفان الأقصى. انعكس هذا سلبًا على الدور الأميركي في المنطقة ومدى قدرته على التأثير خارج الحكومات التي تدور بفلكه، وجدوى التطبيع في ظل متغيرات المنطقة وخارطة القوى الجديدة عسكريًا، وما تفرضه من تبعات سياسية تعمل الإدارة الأميركي بجهد لتجاوزها وجمع حلفاءها في المنطقة ضمن محور يضم إسرائيل إلى السعودية مع حكومات التطبيع العربية وأنظمة “السلام” ضمن استراتيجية تُدخل لبنان فيها، وذلك بعد تيقّن أميركا من عجز إسرائيل عن تسجيل انتصار في معركة ترتد سلبًا على أميركا قبل غيرها، وتخنق مصالحها أمام تمدد الصين للمنطقة وبداية تغير المزاج العالمي وانعكاسه سلبًا على إسرائيل التي تغرق من الداخل في سيل من الأزمات في مقدمها:
- أزمة الثقة داخل الحكومة التي أدت إلى استقالات أوصلت إلى حل حكومة الحرب
- فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في حماية المستوطنين
- عجز نتنياهو عن اتخاذ أي قرار
- توازن القوى وحجم المقاومة
- الخشية من تدحرج الحرب وتحوّلها إلى حرب قليمية دولية
المشهد المتخبط داخل كيان الاحتلال الإسرائيلي يقابله واقع مختلف على جبهات المواجهة. ففي غزة، لاتزال فصائل المقاومة تمسك بالأرض والقرار ومعها السكان، مقابل عجز الجيش عن حماية المستعمرات مع تفاقم مظاهرات مستوطنين المطالبة بتوقيع هدنة. أما على الجبهة اللبنانية، فالواقع مختلف بدءًا من حجم الجبهة وتضاريسها وعديد المقاومة وأسلحتها النوعية، وعامل المفجأة الذي ينتظره العدو الإسرائيلي في كل لحظة، من دقة إصابة الأهداف والتفوق التقني، وكيفية إدارة المعركة وانعكاسها على الأمن والاستقرار داخل لبنان، وصولًا إلى تحذير قبرص، وما تركه كل هذا من توازن في الردع ودق ناقوس الخطر لحرب ترسم نهاية إسرائيل وتكلّف أميركا خروجها من المنطقة لصالح الصين وروسيا. ومن جهة أخرى، تبقى جبهات سوريا العراق وصولًا إلى اليمن وكيف تدير المقاومة عملياتها فيها إذ لا يستطيع الإسرائيلي إلا تفعيل ما تبقى من أجهزة دفاعية لديه، فكيف إذا ضاعفت المقاومة عملياتها عشرات لا بل مئات المرات؟