فقاعة البديل المدني


بدأت حركة منظمات المجتمع المدني تتوسع في لبنان بعد حرب تموز 2006، مع مشروع فيلتمان الهادف لاستقطاب الشباب بعيداً عن حزب الله، هكذا قال في شهادته أمام الكونغرس عام 2008 حرفياً. عام 2015 شهد تقدماً كبيراً واكب تطورات الحرب السورية، وبدء اتجاه الهزيمة للمنظمات العسكرية الممولة أمريكياً هناك، مع الحضور الروسي والمشاركة في المواجهة. وفي تشرين 2019 شهد لبنان والعراق بشكل متزامن حركة كبيرة للمنظمات المدنية بدفع سياسي أميركي وتحريك مباشر للمنظمات التابعة لواشنطن، وغير مباشر للمنظمات المتنوعة والمستثمرة في هذا الدفع، والراكبة لموجته لغايات مختلفة ومتكثرة.

منذ ذلك الحين أصبحت هذه الظاهرة في لبنان والعراق محل إضاءة إعلامية محلية اقليمية ودولية، وتلقت كذلك دعماً عسكرياً مسلحاً من الناتو، الذي كان يهدد دوماً الأجهزة الأمنية في حال تعرضت للمتظاهرين أو قاطعي الطرق.

تولى معهد الشرق الأوسط في واشنطن بإدارة بول سالم، الترويج لنظرية البديل المدني، خلال مؤتمرين عقدا في المعهد في تموز من العام الماضي وهذا العام، وقد شارك فيهما شخصيات أميركية هامة، قيادات عسكرية من السنتكوم، سفراء سابقون، وحشد كبير من الناشطين في المجتمع المدني اللبناني، تحت عنوان اللوبي اللبناني في أميركا. في المؤتمر الأول كان هناك حماس كبير للبديل المدني، وكان هناك طروحات أفلاطونية حول امكانية تسليم السلطة للناشطين الموجودين في المؤتمر بعد إسقاط الطوائف والأحزاب وإخراجها من اللعبة السياسية. في المؤتمر الثاني، كانت الطموحات قد بدأت تقترب من الواقع، أصبح المطلوب هو مشاركة مقبولة من المجتمع المدني في النظام.

لم تشارك الكثير من المنظمات والشخصيات التي نسمع عنها في لبنان في تلك المؤتمرات، ولم يكن لها مكان في المطبخ الرئيسي، وربما تكون بعض الأصوات الموجودة في الساحة اللبنانية تفكر بطريقة أكثر خيالية من الحاضرين في ذلك المؤتمر، وبعضها الآخر أكثر واقعية وتواضعاً، ولا يمكن أن نعرف الخلاصة الحقيقية لتلاقح أفكار المدنيين إلا في حال خوض نقاش حقيقي، إذا كان ذلك ممكناً أصلاً.

حتى الآن استفادت أطراف عديدة من حركة هذا الأرخبيل المتنوع المتناقض، الذي يعبر في النهاية عن مشاريع شخصية لبعض القيادات، تستفيد من الخراب القائم وتستثمر فيه، بهدف الوصول إلى السلطة، مثل أي حركة حزبية سياسية تقليدية، فلو سألنا بعض الطامحين لتسلم السلطة بشكل سلمي، هل تقبلون أن يتم تسليم السلطة بشكل سلمي للمنظمة المجاورة لكم، فبالتأكيد سنحصل على جواب حزبي، بل ربما قبائلي.

استفاد الأميركي منها بشكل نسبي. كان لديه طموح خيالي كذلك، كان يطمح أن يستقطب من خلال التمويل والدعاية، شباب البيئة الحاضنة للمقاومة، ويبعدهم عن منطقها وسلاحها، وأدرك عدم واقعية هذا الطموح، فانتقل إلى الانقسام الاجتماعي وقدم لهؤلاء الشباب بديلاً ينادي بضرورة وجود حل اقتصادي معاشي، إلى جانب حماية الوجود والدفاع عن الحدود. استفاد الأميركي تدريجياً من المنظمات التي يحركها مباشرةً، ويسلط عليها الضوء من خلال القنوات التلفزيونية اللبنانية التي استولى عليها مالياً، ووجه تلك المنظمات نحو تغيير مسار الاحتجاجات الاجتماعية، نحو احتجاج سياسي مجدداً، موضوعه بطبيعة الحال معروف، ودفع بأنساق خلفية غير مكشوفة للتحرك نحو بث رسائل تحميل المسؤولية للمقاومة عن الفساد، وهكذا جمع بين الاستهداف السياسي والاجتماعي، عبر توزيع القوات المدنية على مستويات الطيف الإعلامي والاجتماعي. استفاد الأمريكي من الكتلة المدنية في لبنان وكذلك في العراق، في منع أي استثمار خارجي من الدخول إلى البلاد، من خلال التحريض والعنف واثارة القلاقل الأمنية وقطع الطرقات، بحيث تتراجع الحكومات أو تتراجع الدول المستثمرة.

استفاد أعداء الأميركي من الحركة المدنية التي فككت الأحزاب السياسية التي كان يعتمد عليها الأميركي، ويسندها بعمق طائفي وبكتلة شعبية ومالية وازنة. ضعفت هذه الأحزاب وترهلت أمام هذا المد من المنظمات والتمويل الهائل، حيث أقر مساعد وزير الخارجية الأمريكية ديفيد هيل أمام الكونغرس بأن التمويل الأميركي وحده وصل إلى عشرة مليارات دولار. أعداء الأميركي يتحركون الآن في مرحلة انتقالية ما بين تفكك الأحزاب الأميركية وتراجع نفوذها، وبين تشكل البديل المدني، لكن هل سيتشكل؟
لم يسبق لتجمعات المنظمات الصغيرة أن تحولت إلى كتلة فعلية وسلطة، تجارب الربيع العربي التي كان يديرها الأميركي بالتفصيل، لم تصل إلى هنا، بل كان هناك بدائل جاهزة، حركها الأميركي عند الضرورة وفي الوقت المناسب، وتم إخراج الفقاعة المدنية من التداول. السبب بسيط، لم يتم بناء هذه الأداة للقيام بعمليات البناء أو تشكيل مسار ستاتيكو لنظام سياسي، هي منظمات تستطيع أن تحرك وتغير، لكنها لا يمكن أن تبني، كيف يمكن أن تجمع أكثر من 2000 منظمة في إطار سلطة واحدة؟ أصلاً هذا الأمر عصي على المحاولة حتى، على فرض أن هذه المنظمات حازت على التمثيل الشعبي وهي لا تفعل إلا للحظات محددة.

من ناحية أخرى، وبالمقارنة مع الفوائد للأطراف المختلفة، فإن لها آثار سلبية على البلاد، على مستويين، الأول اقتصادي، حيث إن قطع الطرقات والاحتجاجات غير الهادفة والتي لا تمتلك الوسيلة للوصول إلى النتيجة، ولا تستطيع حتى التحكم بحضور الجمهور وتأييده، نظراً لتشتتها وغرابة مواقفها وتناقضاتها الداخلية، وتسلق المتسلقين الشخصانيين على ظهورها، فإن ناتج الاحتجاجات على المستوى الاقتصادي كان مدمراً.

على المستوى الثاني، وهو الأخلاقي، يتضح بعد سنتين من التجربة في لبنان، أن التنشئة التي يتعرض لها الشباب تحت ظل هذه المنظمات، تؤكد أن الهدف من هذا الأرخبيل ليس البناء ولا التطوير، شخصيات مضطربة، ولديها كمية من الانحدار اللغوي والتواصلي غير المسبوق حتى عند الأحزاب الفاسدة، وهذا ما يستدعي البحث عن كيفية التنشئة التي أوصلت فئة من هذا الجيل إلى هذا التسافل الفكري والاجتماعي، ويدفع بالسؤال نحو النتائج التي كنا سنحصل عليها فيما لو وصلت هذه الشخصيات إلى السلطة كما كان يطبل ويزمر بول سالم في واشنطن.

اساسيالمجتمع الدوليسفاراتلبنان