ليس من فعل المبالغة إطلاق تسمية “شريان الحياة” على معبر رفح الذي يصل قطاع غزّة بمصر والعالم، باعتبار أنه المخرج الأساسي وشبه الأوحد الذي يُسمح لأبناء القطاع من خلاله أن يتواصلوا مع العالم القابع خارج أسوار حصارهم التي شيّدها الكيان المحتل منذ أكثر من 17 عامًا.
لمعبر رفح تاريخ من المعاناة، وهو الشاهد الأول على حجم الظلم والحصار والتجويع الذي يتعرض له شعب غزّة في كلّ يوم، وقد توّجت هذه المعاناة مع دخول القطاع تحت وطأة الحرب الوحشية منذ أكثر من سبعة أشهر، ومع وصول حجم الإجرام والحصار الصهيوني إلى مراحل غير مسبوقة، توجهت الأنظار بشكل قاطع إلى “مخرج الطوارئ الوحيد” الذي أصبحت التفاصيل المرتبطة به قضية إنسانية مصيرية ومثيرة للجدل أيضًا.
يربط مصر بقطاع غزّة معبران، أولهما “معبر رفح” المخصص لعبور الأفراد، والثاني هو معبر “كرم أبو سالم ” المخصص لعبور البضائع، وذلك من ضمن 7 معابر تربط قطاع غزّة بباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر. حركة التنقل ومرور البضائع من وإلى قطاع غزّة نظمتها اتفاقية المعابر الموقعة بنوفمبر – تشرين الثاني عام 2005 بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” برعاية أميركية أوروبية وبموافقة مصرية ضمنيّة، بحيث تتولّى السلطة الفلسطينية إدارة المعابر من الجانب الفلسطيني تحت إشراف فريق من الاتحاد الأوروبي، وتدير مصر و”إسرائيل” حركة العبور للمعابر التي تقع داخل أراضي كلًا منهما بما يتماشى مع المعايير الدولية.
العمل بهذه الاتفاقية استمر لغاية العام 2007، حين تسلمت حركة المقاومة الفلسطينية حماس السلطة الداخلية في قطاع غزّة، وعقب ذلك أصدر رئيس السلطة الفلسطينية قرارًا باعتبار حركة حماس خارجة عن القانون، وطلب من “إسرائيل” ومصر غلق معبر رفح البري واستبداله بمعبر كرم أبو سالم لعبور الفلسطينيين العالقين على الحدود المصرية الفلسطينية، وقد عمدت مصر إلى إغلاق معبر رفح البري بسبب غياب ممثلي السلطة الفلسطينية كما تنص عليه اتفاقية المعابر. ولكنها في بعض الحالات الاستثنائية وبالتنسيق مع “إسرائيل” كانت تسمح بعبور المصابين للعلاج.
حركة معبر رفح شهدت تقلبات عديدة بين تسهيلات وإجراءات صارمة، إلا أنه بعد تولي السيسي رئاسة الجمهورية المصرية، ازداد التنسيق الأمني مع “إسرائيل” بشكل كبير وأغلق المعبر بصورة دائمة، وعمدت السلطات المصرية إلى تهجير سكان المدن الملاصقة لقطاع غزّة بمحافظة شمال سيناء (مدينتي رفح المصرية والعريش)، بهدف السيطرة على الحدود وإيقاف حركة الانتقال غير الرسمي بين غزّة وشمال سيناء.
إغلاق مصر لمعبر رفح بشكل شبه دائم ساهم في مضاعفة تداعيات الحصار “الإسرائيلي” الخانق على قطاع غزّة. ورغم إدراك النظام المصري لهذه التداعيات الكارثية على شعب غزّة، إلا أن مصر في الحقيقة ترى الأمور من منظار مختلف. يخيّل للبعض أن غاية المصريين من إغلاقهم لمعبر رفح هي حماية أمنهم القوميّ ومنع التهجير القسري للفلسطينيين، إلا أن الحقيقة ليست كذلك، لأن مصر في الأساس لا تنظر لقضية حصار غزّة باعتبارها قضية إنسانية، وإنما باعتبار هذا الدور هو دافع استراتيجي ليكون لها قيمة ووزن إقليمي في الشرق الأوسط بصفتها وسيطًا مقبولًا من “الإسرائيليين”.
هذا الهدف يوازيه هدف آخر، وهو رغبة مصر في تقييد نشاط حركة حماس، وخوفها بعد انسحاب “إسرائيل” من القطاع في عام 2005 من أن تتحمل الأعباء الاقتصادية لسكان القطاع، أو أن تتحمل مسؤولية إدارته كجزء من المخطّط الصهيوني لإنهاء ما تبقى من القضية الفلسطينية. ويأتي تبرير مصر في هذا السياق أن قطاع غزّة هو فعليًّا محتل، وعلى “إسرائيل” تحمل مسؤولية إعاشة سكانه، فضلًا عن عدم وجود سلطة فلسطينية “شرعية” قادرة على إدارة معبر رفح من الجانب الفلسطيني.
ومع اندلاع معركة طوفان الأقصى، وإصدار محكمة العدل الدولية قرارها الأول المتعلّق بمنع ارتكاب جريمة إبادة جماعية، قامت مصر بمطالبة “إسرائيل” بتنفيذ التدابير اللازمة، وردّت على اتهامات الإسرائيليين في محكمة العدل الدولية بأن مصر هي المسؤولة بشكل كامل عن معبر رفح، وأن “إسرائيل” لم تمنع دخول المساعدات، وجاء الرد على لسان الرئيس المصري بأن المعبر مفتوح فعليًا ولكن القوات “الإسرائيلية” هي من تعيق دخول المساعدات الإنسانية.
تصريحات الرئيس المصري اصطدمت بتصريح لاحق للرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أفاد بأنه قد أجرى اتّصالًا بالرئيس السيسي لإقناعه بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزّة، وأن الأخير كان يرفض فتح المعبر لإغاثة سكان القطاع المحاصرين تحت القصف “الإسرائيلي” المتواصل منذ 7 أكتوبر – تشرين الأول الماضي، مما يعيد توجيه أصابع الاتهام إلى النظام المصري في إغلاق المعبر وبالتالي مشاركة “إسرائيل” في سياسة التجويع والحصار، ما يعني جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء قطاع غزّة.
الجدير بالذكر أن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تعدّ قانونًا دوليًا ملزمًا، والقرار المرتبط بها نافذٌ على جميع دول العالم وليس فقط المصدقة والموقعة عليها، بمعنى أن هذا القرار الذي ألزم دولة الاحتلال باتّخاذ عدد من التدابير لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إنما يلزم مصر أيضًا بصفتها الدولة صاحبة السيادة على معبر رفح البري.
أمام هذه الوقائع، لا يمكن التغاضي عن دور القاهرة غير المباشر في تنفيذ حكم الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزّة، لأن إغلاق معبر رفح الكلّي يأتي نتيجة الضغوط “الإسرائيلية” التي لا تستطيع مصر التنصّل منها أو حتّى الاعتراض عليها، وربما خير دليل على هذا الانهزام السياسي المصري، هو ما حدث في الأيام الأخيرة من تبادل لإطلاق النار عند معبر رفح بين الجيش المصري وجيش الاحتلال الصهيوني، حيث ارتقى شهيدان من القوات المصرية، ورغم أهمية الحدث، إلا أن السلطات المصرية لم تعقّب عليه سوى بتصريحات مقتضبة، باعتبار الحدث “لا يحمل أهمية كبيرة ولا يؤثر حتّى على العلاقات السياسية بين البلدين”.