لم يغب ملف التطبيع السعودي مع الكيان الصهيوني عن الساحة السياسية والإعلامية منذ بدء الحرب على غزّة، فهو وإن تراجع البحث في تفاصيله مع بداية الحرب، إلا أنه عاد إلى الواجهة مجددًا بدفعٍ أميركي بامتياز، في محاولة من هذا الأخير لإبرام اتفاقيات التطبيع بمعزلٍ عن القضية الفلسطينية وما يدور حاليًّا من حرب وحشية في قطاع غزّة.
عودة الملف إلى طاولة المفاوضات السعودية الأميركية جاء هذه المرة بمشهدٍ مختلف، حيث برز البند المرتبط بالاتفاقية الأمنية الدفاعية المُزمع توقيعها “قريبًا” بين واشنطن والرياض، واعتبار المضي بعملية التطبيع بين السعودي و”الإسرائيلي” شرطًا أساسيًا لتوقيعها وفقًا لمصادر رسمية سعودية وأميركية، ورغم وجود مصادر سعودية تتحدث عن إمكانية الفصل بين الاتفاقية ومسألة التطبيع، إلا أن التقارير الأميركية استبعدت هذا الأمر.
في هذا السياق، تشير مصادر مطلعة أن أميركا رفضت الفصل بين المسألتين، وأصرّت على أن توقيع الاتفاقية محصورٌ بشكل أساسي بالتطبيع السعودي – “الإسرائيلي”، وهذا الموقف جاء مؤخرًا على لسان مستشار الأمن القوميّ الأميركي جيك سوليفان في تصريحات له لصحيفة فايننشال تايمز، حيث أصرّ على أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لن تدخل في اتفاقية دفاع مع السعودية إلا إذا طبّعت علاقاتها مع “إسرائيل”.
قبل الخوض في استنباط مصير مفاوضات التطبيع، لا بد من التطرّق لتفاصيل الاتفاقية الأمنية الدفاعية التي تراهن أميركا عليها، فالاتفاقية التي تسعى السعودية جدّيًا لإبرامها تدخل في خانة الاتفاقيات “الثقيلة” التي تكون الولايات المتحدة الأميركية بموجبها ملتزمة بالدفاع عن دولة ما بشكل صارم، مثل دول حلف شمال الأطلسي “الناتو”، أو اليابان أو كوريا الجنوبية أو أستراليا، وبمفهوم الخبراء، فإن هذا النوع من الاتفاقيات الدفاعية يعني أن “الهجوم على أحد الأطراف هو هجوم على الجميع”.
الاتفاقية التي تضمن حصول السعودية على أسلحة أميركية متطوّرة، والأهم هو إمكانية وصولها إلى التكنولوجيا النووية المدنية بوسائل لا تسمح بتسليحها بسهولة، يقابلها في الجانب الآخر مكاسب كبيرة متشعبة لصالح الطرف الأميركي، كأن تضمن الرياض وقفها لمشتريات الأسلحة الصينية والحدّ من الاستثمارات الصينية على أراضيها. والجدير بالذكر أن تدهور العلاقات السعودية الأميركية في السنوات الماضية عقب امتناع أميركا عن تزويد السعودية بأسلحة متطورة لضمان سلامتها وأمنها، دفع هذه الأخيرة للتوجه نحو السوق الصينية لتأمين البدائل.
في الإطار، أجبرت انتكاسات أميركا في الحرب الأوكرانية على إعادة بحثها في العلاقة السعودية، نظرًا للدور المهم الذي تؤديه الرياض في السوق النفطية العالمية، وهذا يعد مكسبًا آخر للإدارة الأميركية الحالية التي تحاول “تلميع” صورتها عبر تحقيق “إنجاز” دبلوماسي، خصوصًا قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية المنتظرة في نهاية العام الحالي.
مكسب جديد يضاف إلى ما قبله، وهو محاولة واشنطن الجمع بين القوّة العسكرية والاستخباراتية “”الإسرائيلية”” في المنطقة، والنفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي – وحتّى الدّيني – السعودي، خاصة في الساحة العربية لتشكيل تحالفٍ شاملٍ يمهد الطريق لأميركا كي تبسط نفوذها في الشرق الأوسط، لتحدّ من تمدد النفوذ الإيراني على حد اعتقادها، وكذلك الانتشار الصيني والروسي في المنطقة وخاصة الاقتصادي.
إن مكاسب واشنطن من إبرام الاتفاقية الدفاعية هذه لن تكتمل دون تسوية مسألة التطبيع السعودي – “الإسرائيلي”، والأمر هنا لا يرتبط فقط بكون هذه التسوية ضرورية لتحقيق مكاسب بسط النفوذ الأميركي في المنطقة العربية فحسب، بل لأن مثل هكذا اتفاقية من الاستحالة أن تتم دون المصادقة عليها بأغلبية الثلثين في الكونغرس الأميركي، والنتيجة شبه المؤكدة أن هذه الاتفاقية لن تمرّ في الكونغرس بأي شكل من الأشكال من دون المكوّن “الإسرائيلي”، ما يعيدنا مجددًا إلى حلقة التطبيع السعودي – “الإسرائيلي”.
وبالعودة إلى الموقف “الإسرائيلي” البحت من عملية التطبيع المحتملة مع السعودية، لا زال يشكّل شرط الرياض الأساسي القاضي بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، العائق الأكبر أمام “الإسرائيلي” للمضي قدمًا بهذه العملية، وقد جاء رفض “إسرائيل” لهذا الشرط بشكل رسمي وعلى لسان العديد من المسؤولين في حكومة العدو، رغم التأييد “الإعلامي” الأميركي لها.
أمام هذا الواقع تجد السعودية نفسها أمام مفترق طرق، إما أن تستمر في مفاوضات التطبيع علّها تصل إلى تسوية تحفظ معها التزامها بالقضية الفلسطينية كما تقول، أو أنها سترضخ في نهاية المطاف لمطالب الأميركي، وتتنازل عن شرطها في ضمان “حل الدولتين” كسبيلٍ أوحد لتحقيق مصالحها العليا، والإجابة هنا ستكشفها لنا الأيام القادمة والتي ستكون مرهونة في كلّ أحوالها بأحداث حرب غزّة ونتائجها وتداعياتها الإقليمية والدولية.