ضج العالم في الآونة الأخيرة بالتظاهرات الحاشدة التي شهدها العديد من الجامعات حول العالم تنديدًا بالحرب الصهيونية على قطاع غزّة، والتي يأتي في مقدمتها نخبة الجامعات الأميركية مثل كولومبيا وييل ونيويورك وهارفارد وغيرها، حيث قام حشود من طلاب هذه الجامعات والهيئات التعليمية فيها بمظاهرات للمطالبة بوقف الحرب “الإسرائيلية” الإبادية على غزّة، وقد أدت هذه المظاهرات لاعتقال ما يقارب الـ 1000 متظاهر لغاية الآن في أكثر من 25 حرمًا جامعيًّا.
هذه التظاهرات التي اندلعت في فترات معينة قبيل بدء الحرب الوحشية على غزّة وهدأت بعدها، عادت لتشتعل مجددًا منذ الثامن عشر من إبريل/نيسان الحالي، وتحديدًا من جامعة كولومبيا الأميركية حيث أقام الطلاب مخيمًا في حرم الجامعة للمطالبة بوقف الحرب ومحاسبة “إسرائيل”، لتكون هذه المظاهرة شرارة لما بعدها من الاحتجاجات التي وصفت بأنها من أقوى وأخطر الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأميركية في العقود الأخيرة.
المفاجأة التي فجرتها المظاهرات لم تكن بفكرة الاحتجاج أو بإتاحة القيام بذلك، بل بالقضية التي تناولتها الاحتجاجات لا سيما في حرم الجامعات الأميركية، والمفاجأة الكبرى في هذا الصدد هي أن عشرات الملايين من الدولارات التي صرفتها “إسرائيل” على امتداد عقود على المنظومة التابعة لها، للسيطرة على النقاش داخل حرم الجامعات الأميركية في ما يخص القضية الفلسطينية والدعم الأميركي لـ”إسرائيل”، قد تبخرت فعليًا.
خطورة تداعيات ما يحدث بين أوساط الجامعيين الأميركيين تظهر من خلال خطاب رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو” الذي ألقاه منذ أيام، حيث تناول الخطاب هذه الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، شاتمًا الطلاب المشاركين فيها وواصفًا إياهم بـ”الغوغاء”، مطالبًا بتوقّف هذه المظاهرات على الفور.
الواقع أن “إسرائيل” مهتمة لدرجة كبيرة جدًا بما يشهده المجتمع الأميركي من تحركات “معادية للسامية” كما يسمونها، لذا فهي تحاول منذ عقود العمل بشكل حثيث على محاربة هذه الفئة في محاولة لإسكاتها والضغط عليها لتشتيت الأنظار عن القضية الفلسطينية من جهة، وتكريس الوجود الصهيوني في العالم – وخاصةً أميركا – من جهة أخرى.
أساليب الكيان الصهيوني في هذا المجال اعتمدت بشكل أساسي على خلق مجموعات وتنظيمات طلابية مناصرة لـ”إسرائيل” في الجامعات الأميركية، يقف وراءها مجموعة من المنظمات والجمعيات “الإسرائيلية” المتصلة على نحو مباشر أو غير مباشر بالحكومة الصهيونية، وقد عملت هذه المنظمات على تكريس هدفين أساسيين، الأول تنظيم صفوف الطلاب وهيئات التدريس المؤيدين لـ”إسرائيل”، والثاني استهداف ومحاصرة الطلاب وهيئات التدريس المؤيدين للفلسطينيين.
منظمة “israel on campus coalition”، هي إحدى المنظمات التي تهدف لتوحيد وتنظيم جهود المؤيدين لـ”إسرائيل”، فعلى سبيل المثال عمدت هذه المنظمة إلى دفع مبلغ 250$ لكل فرد يلتحق بالمظاهرة الداعمة لكيان الاحتلال التي انطلقت في أميركا في نوفمبر الماضي، وتحديدًا فئة الطلاب، في سبيل إظهار تأييد الجماهير الأميركية ودعمها لـ”إسرائيل”.
في السياق نفسه، وبالعودة إلى الوراء تاريخيًا وتحديدًا عام 1979، حيث أطلقت لجنة الشؤون العامة الأميركية – “الإسرائيلية” “AIPAC” برنامجًا لتجنيد الطلاب في الجامعات الأميركية لجمع معلومات عن الطلاب والأساتذة المؤيدين للقضية الفلسطينية، وقد استطاع البرنامج تجنيد ما يقارب الـ 5500 طالب حتّى عام 1983، خضعوا جميعهم لورش عمل موزعين على 350 ورشة لتدريبهم على كيفية منافسة الحجج المؤيدة لفلسطين والمعادية لـ”إسرائيل”.
منظمة أخرى ظهرت عام 2001 تحت اسم “Hasbara Fellowships”، والتي عملت على دفع أموال للطلاب الأميركيين مقابل سفرهم للأراضي المحتلة وتلقّيهم برنامجًا تدريبيًا لمدة أسبوعين بالمجال نفسه. وقد بلغ حجم الأموال التي أنفقتها المنظمة على هذا البرنامج في عام 2020 فقط، 500 ألف $.
من المنظمات إلى المواقع الإلكترونية، وأبرزها الموقع الأكثر خطورة “Canary mission” الذي أطلق عام 2014 وهو متخصص بنشر لائحة بأسماء كلّ من يعارض أو ينتقد السياسة “الإسرائيلية” أو يؤيد القضية الفلسطينية بأي شكل، من طلاب وأساتذة ومؤسسات إعلامية وصحافية وغيرها، ويتم تحديث هذه اللائحة على نحو مستمر، في محاولة لتشويه صورة من فيها ونبذهم أكاديميًّا واجتماعيًّا وسياسيًا واقتصاديًا في المجتمع الأميركي، وهذا ما يقوم به فعليًا هذا الموقع منذ انطلاق هذه المظاهرات.
الجدير بالذكر أن خطورة الوضع الراهن فرضت على الحكومة “الإسرائيلية” التدخل المباشر للحد من انتشار وتوسع موجة الاحتجاجات، إذ بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عملت وزارة الخارجية “الإسرائيلية” بالتعاون مع وزارة شؤون الشتات “الإسرائيلية” على تشكيل فرق عمل مهمتها تنفيذ عمليات تشهير وضغط على الجامعات الأميركية لتضغط هذه الأخيرة على الطلاب والمدرسين المؤيدين للقضية الفلسطينية، وذلك ضمن خطة عمل متكاملة تهدف لإلحاق الأذى بالفئات “المعادية للسامية”.
وفي هذا الإطار، هدّدت الحكومة “الإسرائيلية” بممارسة الضغط على المانحين اليهود وغير اليهود لسحب استثماراتهم من الجامعات التي لا تعالج “معاداة السامية”، وحرضت بدورها الحكومة الأميركية على فرض عقوبات اقتصادية على الجامعات التي تتلقى تمويلًا عامًا منها، وأشارت وزارة خارجية العدو، أنها بصدد دراسة إمكانية إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تستهدف طلابًا في الجامعات الأميركية.
يسعى الكيان الصهيوني إذًا لمحاربة ظاهرة الاحتجاجات في الجامعات الأميركية بكلّ الوسائل الممكنة وعلى كافة المستويات، وفي ذلك دلالة على أن وعي المجتمع الأميركي – لا سيما الشباب – على حقيقة كون هذا الكيان معتديًا ومحتلًّا وباطلًا، يمثل خطورة بالغة الأهمية على متانة وعمق العلاقات القائمة بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية، خاصة وأن الشباب الأميركي يمثل اليوم الفئة العمرية الأقل تأييدًا للكيان المحتل.