أرخت الحرب الصهيونية على جنوب لبنان بظلالها على كلّ ما يعج بالحياة في القرى الحدودية الأمامية على وجه التحديد، ففي قاموس الإجرام الصهيوني لا استثناءات، كلّ ما تطاله يد الإجرام لا بد من إبادته، ضاربين عرض الحائط بالقوانين الدولية على اختلاف مجالاتها.
ثروة لبنان الجنوبي الطبيعية كانت أبرز المعالم التي تعمدت آلة الحرب الصهيونية تدميرها بكلّ قوة، إذ لم تسلم الأحراج والبساتين والأودية الممتدة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة من هذه الاعتداءات التي بدأت في أكتوبر الماضي ولا زالت مستمرة ليومنا هذا.
تعتمد “إسرائيل” في حربها هذه سياسة “الأرض المحروقة”، والتي تعرّفها الفيديرالية الدولية لحقوق الإنسان بـ”استراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها إحراق أي شيء قد يستفيد منه العدوّ عند التقدم أو التراجع في منطقة ما”، وهذا ما قام به العدوّ الإسرائيلي فعليًا من خلال تحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة غير آمنة للبشر وللزرع ولكل أشكال الحياة.
في دراسة لها، ذكرت المنصة الوطنية للإنذار المبكر التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلمية، عن “تسجيل 2447 اعتداءً إسرائيليًا على جنوب لبنان، منذ تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لغاية 1 يناير/كانون الثاني 2024. وخلال تلك المدة، حرق الجيش الإسرائيلي 800 هكتار من الأرض”.
تشمل المساحة المحترقة 24 هكتارا من شجر الزيتون بعدد 5 آلاف شجرة، بعضها يعود إلى أكثر من 150 عامًا، إلى جانب 22,8 هكتارا من أشجار الموز والحمضيات، والضرر الأكبر لحق بـ343,9 هتكارا من السنديان المعمر. وتتنوع الأسلحة المستخدمة ما بين قذائف وغارات (2200)، وقنابل مضيئة حارقة (107)، وقنابل فوسفورية (73)، وقنابل فوسفورية بالإضافة إلى قذائف عادية (27).
من المعروف بيئيًا أن الفوسفور يلحق أضرارًا كبيرة بمكونات التربة، وتسمم التربة يعني إنخفاض خصوبتها وجودتها، كما أن الأمر يتطلب مدة طويلة لكي تستعيد حيويتها إلى ما كانت عليه قبل هذه الاعتداءات التي تميّزت بكثافة غير مسبوقة من استخدام الفوسفور الأبيض، وتكرّر الاستهداف على النطاق الواحد واستمراره لفترة زمنية طويلة، وهو ما يحقق الإبادة البيئية.
الجدير بالذكر أن “إسرائيل” تعمدت أيضًا ضرب النظام البيئي في جنوب لبنان منذ بداية الحرب، فخلال الأيام الأولى منها فقط، شمل القصف بالفوسفور كلّ المناطق الحدودية التي تتجاوز مساحتها 100 كيلومتر مربع، أبرزها منطقة اللبونة الحرجية التي تعرضت للقصف الفوسفوري على مدى عدة أشهر، والغاية تقويض النظام البيئي وفرصة إعادة نمو الأشجار أو جعلها شديدة الصعوبة.
الغطاء النباتي ليس وحده المتضرر من الهجوم الفسفوري الإسرائيلي، إذ بحسب الخبراء البيئيين، فإن الفوسفور يتسرب أيضًا إلى خزانات المياه الجوفية، ويتسبب كذلك بتلوث المياه السطحية التي تجري إلى الأنهر والجداول الموسمية أو تتجمع في أحواض مائية صخرية، وهذه المياه السطحية تلجأ إليها أنواع لا حصر لها من الحيوانات والطيور للشرب، مما يعني التسبب بتسمم هذه الحيوانات والطيور على المدى البعيد.
وفي إطار متابعة الأضرار البيئية على وجه الخصوص من جراء هذه الحرب، أشار وزير الزراعة الدكتور عباس الحج حسن في تصريح له: “بيئيًا لا نظرية واضحة بل نظريات عدة، تتحدث عن مدى تأثير الفوسفور، وإذا تعرض للأوكسجين أم لم يتعرض، وإذا كان في مياه جارية أو بحيرات… كلّ هذه الأمور صحيحة، لكن الصح ما قمنا به في وزارة الزراعة مع المجلس الوطني للبحوث العلمية. حيث شكلنا لجنة وظيفتها، مجرد انتهاء الأعمال العدائية الإسرائيلية، أخذ عينات تمثيلية لكل هذه المناطق وإجراء فحوصات لنرى مدى نسبة تركز الفوسفور الأبيض في التربة ومدى تأثيره، وبعده يمكننا ان نعلن للرأي العام مدى تأثيره بعد شهر أو سنة أم أنه لا يؤثر، يجب أن تكون هناك حقيقة علمية، لكنّها غير موجودة اليوم لأنه لا يمكننا أخذ عينات”.
الحرب الصهيونية الأخيرة تثبت من جديد أن الأرض هي المحور والأساس والهوية بالنسبة للجنوبي، وأن اتصاله بها جذري لا يفصله شيء، ووجوده فيها قديم قِدم الزيتون المتجذر بتربتها منذ أن كانت وكان الجنوب، وارتباط الجنوبي الروحي والتاريخي بأرضه، قضية لن يفهمها صهيوني محتل معتدي، وجوده وَهم وزواله حتمي.