في قصر ملك يُعرف باسم “ملك البندورة” نشأت أميرة تُدعى سلمى. وكسائر الأميرات، حظيت سلمى بكلّ الدلال الممكن في كنف والد نصفه بريطاني، ونصفه الآخر عربي يحوي كلّ ما تُنكر العُرب وعددًا لا يُحصى من الأوسمة الحربية المدموغة بـbarcode الشركات المبرمِجة للألعاب الإلكترونية، لأن جلالته محارب لا يُقهر ومقاتل لا يُهزم في سوق المعارك الوهمية ولا سيّما المسليّة منها. حظي جلالته بمعظم هذه الأوسمة بعد فوز ساحق في معاركه الشرسة تلك. أما البعض المتبقي منها فقد ناله عن كفاءة وجدارة في كلّ مرّة تفوّق فيها على نفسه وأثبت للعالم أن ليس للحضيض قاعًا ولا نهاية.
يطلّ القصر الكبير على أرض محتلّة تُدعى فلسطين. وكان عبد الله الملك مسكونًا بالحنين إلى أخواله، ابنٌ بار! قلنا نصفه بريطاني؟! لا، ثلثاه وأكثر تحت أمر جزمة الأخوال. ولأن الأخوال هم أصل بلاء فلسطين، لا يملك الملك حيلة النطق ولو كذبًا بكلمة حقّ للتاريخ، فما كان منه إلّا أن رهن نفسه وملكه بخدمة المحتلين، ثمّ قال بتأثّر بليغ: أرسل للصهاينة البندورة حُبًّا بفلسطين.
كبرت الأميرة وعينا والدها تحيطانها بكلّ عناية، وتتابعان خطواتها بكلّ حرص، كيف لا؟! فالملك يخاف أن يطال ابنته اكسير الشّرف أو يصيبها من ندى الأخلاق قطرة: فأمرٌ كهذا سيجعل الرعيّة تتساءل “من أين لها هذا؟” وترمقها بعيون فضولية معاتبة، “أين ذهبتِ بجينات أبيكِ؟!” حاشاه يصدر عنه أو يتولّد من صلبه أخلاقٌ أو شرف!
كبرت سلمى والتحقت بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكيّة في المملكة المتحدة، وتخرّجت عام 2018 بعد أن أكملت دورة عسكرية تدريبية قصيرة. ويا لبهجة أبيها وفخره حين قلّدها جناح الطيران في مراسم فاخرة وأصبحت بذلك أول فتاة أردنية استطاعت اجتياز مرحلة التدريب الأساسي كطيار على طائرات الجناح الثابت. يا لهذه الإنجازات العظيمة! ابنة عبد الله حمّال الأوسمة، لمَ العجب!
في صباح الأحد ١٥ نيسان، أشرق علينا بدلًا عن الشّمس خبرٌ عظيم: الأميرة تدخل التاريخ. يتساءل سامعٌ: “من أي بوابة؟!”، دعك من ذلك أيّها السامع، فبعض البوابات نترفّع عن ذكر أسمائها لبذاءتها، وإن لا يوجد مرادف لها في سجل الألفاظ اللطيفة. سمِّ ما شئت بوابة تدخل منها سلمى بنت عبد الله التاريخ، ولكن احرص على تكميم أنفك قبل النطق بها، فرائحة البوابات التي يدخل منها هؤلاء إلى التاريخ نتنة للغاية.
ما الذي حدث في ليل ١٤ نيسان، ودفع بالأميرة إلى خوض غمار إنجازها التاريخي العظيم؟ في ساعة متأخّرة، علمت من أبيها أن أهل الشرف قد أرسلوا طيرًا توجِع المحتلّ وتقهره، تفضح عجزه وحيدًا وتكبّله. كان يخبرها بالمصاب الجلل بصوت متلثم وشفاه مرتجفة، وقلب تمزّقه الحسرة. سيعجز عن الدفاع عن وديعة أخواله بنفسه.. فالطير الآتية قوية لا يستطيع مجابهتها بلعبة إلكترونية أو في جلسة تصوير عسكرية. ما العمل؟ “سأطير يا أبي، وأحقّق مرادك” وانطلقت سلمى بثيابها العسكرية على درج الحضيض تركض نحو الطيارة، أو قيل ذلك. ثمّ انطلقت بسرعة كي تتمكّن من المشاركة باصطياد أكبر قدر ممكن من طيور الشّرف، ولو أنّ الطائرات الفرنسية والأميركية كانت تقوم بالواجب وأكثر، ولا تحتاج إلى مساعدة من بنت عبد الل.. لا يهمّ، الأميرة شاركت كي لا يقول قائل إنّ عبد الله في لحظة تاريخية قد مسّه شرف! أبدًا! حاشا للشرف أن يخطىء السير ويرتطم برأس عبد الله!
دخلت التاريخ إذًا من بوابة نترفّع ولو في الخيال عن ذكر اسمها أو مثيلات لها. دخلته من حيث دخل قبلها جدّها في وادي عربة وما زالت تلاحقه اللعنات، ومن حيث دخلته سفاحة تدعى اليزابث باثوري عُرفت بأنها كانت تستحم في دماء العذارى للحفاظ على جمالها، إلّا أن سلمى استحمت بدماء أطفال غزّة. دخلته من بوابة لا تختلف إلّا بالشكل عن تلك التي دخلت منها ستوفلت – كاثرين (بالدنماركية: Støvlet – Cathrine) (ابحثوا عن الاسم)، ولنقل لعلّ بوابة سلمى فاقت تلك قذارة!
يتباهى أهل العار إذًا بأن أميرة منهم قد دخلت التاريخ، فزادت قبحهم قبحًا! من قال إن معايير التاريخ رفيعة تحفظ فقط الصالحين؟ أي وهم هذا! التاريخ له مدخلان: بوابة يدخل منها من عاش عظيمًا شريفًا، وبوابة أخرى، كتلك التي منها دخلت سلمى بنت أبيها.