السيّد فضل الله فقيه عصر المقاومة

مع نظمه لأبيات شعريّة في عمر الثانية عشرة، تجلّت روح المقاومة والرفض لديه، بعد نكبة فلسطين، حيث قال:

دافعوا عن حقّنا  المغتصبِ        في فلسطين بحدّ القُضُبِ

واذكروا عهد صلاح حينما         هبّ فيها طاردًا للأجنبي

وفي آخر كلماته قبل وفاته حيث قال: لن أرتاح حتى تزول إسرائيل من الوجود.

وما بين هاتين الضفّتَين، عمرٌ حافل في الجهاد والمقاومة، والتمرّد والصلابة، ورفض الظلم والبغي والعدوان، وانتصارٌ للمستضعفين والمظلومين، واحتضان للشباب، غرسًا لمفاهيم الحريّة والكرامة في نفوسهم، من أجل تحرير الإنسان والأرض.

مسجد بئر العبد

في حقبة الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات، ارتبط اسم هذا المسجد بحركة الصراع مع الاستكبار والصهيونية، وكذلك كان مأوًى للمستضعفين، ومدرسة تخرّج المقاومين، فمن تحت منبره تخرّج القادة الثوريون من أبناء المقاومة، مشحونين بالوعي والعقيدة القرآنية المجاهدة، مستلهمين النهج الحسينيّ والروح الكربلائيّة في رفض الظّلم والذلّ، في طلب الشهادة في سبيل الحريّة، وكان عنوانًا من عناوين إسقاط اتفاق الذل مع المحتلّ الإسرائيلي المعروف باتفاق 17 أيار، وكان الشرارة التي أشعلت الكفاح المسلّح لإسقاطه فيما بعد. فقد جعل السيد فضل الله من هذه المسجد المنطلق والمآب لكل المجاهدين على امتداد ساحات الصراع آنذاك، والمَعين الذي ينهل منه المقاومون، ويستقون العذب من الفكر، وهذا ما عبّر عنه السيد حسن نصر الله في بيان التعزية حيث قال: “قد فقدنا اليوم أبًا رحيمًا ومرشدًا حكيمًا وكهفًا حصينًا وسندًا قويًّا في كلّ المراحل. هكذا كان لنا سماحته ولكل هذا الجيل المؤمن والمجاهد والمقاوم منذ أن كنا فتيةً نصلّي في جماعته ونتعلم تحت منبره ونهتدي بكلماته ونتمثل أخلاقه ونقتدي بسيرته. علّمنا أن نكون الرافضين للظُّلم والمقاومين للاحتلال وعشاق لقاءٍ مع الله تعالى من موقع اليقين”…

لماذا المقاومة؟!

“هل تقاوم العينُ المخرز؟ إنّ قوة لبنان في ضعفه. لقد دخلنا في العصر الإسرائيليّ. لا فائدة من المقاومة المسلّحة. علينا بالمقاومة المدنيّة”. عبارات كانت تُطلق مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان ووصولهم إلى بيروت، حيث سرى اليأس إلى النفوس، وسلّم الكثير بالأمر الواقع، ولكن هيهات، فهناك فتية آمنوا بربّهم وزادهم هدى، فكان السيّد الحاضن لهذه الفئة تحت شعار “إنَّ قتال إسرائيل عبادة نتعبَّدُ بها لله كي يرضى الله عنَّا”.. فالمقاومة جهاد، وفكر وعقيدة، وهي سبيل للحريّة، فربطها سماحتُه بالإسلام، فكانت مقاومةً إسلاميةً راسخةً في عمق العقيدة، وليست طارئة، ولا آنيّة، وإنّما مرتبطة بالأهداف الكبرى، وهي تحرير الإنسان، وما جعلها تعطي الإسلام المعاصر بُعدًا جديدًا في السَّاحة السياسيَّة، في ما فجَّرته من مواقع للاستعمار والصهيونيّة والطّغيان الدَّاخلي، وفي ما أثارته من قضايا ومشاكل وأجواء، وحقّقَتْه من إرباكاتٍ على المستوى السياسي والأمني للقوى المستكبرة… وهذا ما جعل هذه القوى وعملاءها يفكّرون في التخلّص منه، وبهذا يتخلّصون من عقبة كبيرة في طريق إخضاع الأمّة وإذلالها، فكانت متفجّرة بئر العبد في العام 1985 حين سقط عشرات الشهداء المظلومين، ومئات الجرحى، ونجا السيّد بحماية إلهيّة. واستمرت المقاومة ونضجت رغم الصراعات التي أُدخلت فيها، فكان سماحته الحاضن على الدوام، بعباءته وعِمّته، ولم يُسلِمها رغم الزلازل والقواصف، فكانت المقاومة الخطّ الأحمرَ الذي لا يجوز المساس به تحت أيّ ذريعة، ومهما كانت التسميات، وقد كلّفه هذا محاولات اغتيال وتصفية جسدية، ولاحقًا معنويّة لم تزحزحه قيد أنملة عن موقفه الثابت.

الروح المقاومة

أراد السيد فضل الله أن يجعل من المقاومة روحًا ثوريّة تسري في أجساد الناس، فكانت محاضراته وكتبه نهجًا يسير عليه هؤلاء، ويستمدّون العزيمة والقوّة الروحية منها. وشدّد على القوّة الرُّوحية قبل العسكريّة، فمهما امتلكنا من عتاد وسلاح، فلا فائدة منه إذا لم نمتلك الروح التي تقاتل، فالروح هي التي تقاتل قبل الساعد والبندقيّة، فمن يمتلك الرُوح يمتلك أساس النصر. وأراد أن يحرّر هذه المقاومة من المناطقية لتكون على امتداد الوطن، وامتداد العالم الإسلامي، وبخاصّة فلسطين، فكان يعتبر أنّ المعركة الأولى التي يجب أن تتحرَّك فيها المقاومة هي: معركة إخراج إسرائيل من جنوب لبنان – أو بالأحرى من لبنان – هذه معركة بدأت ولا بُدَّ من أن تستمرَّ لتصل إلى نهاية سعيدة كما وصلت المعارك السّابقة. والمعركة الثّانية الّتي نخوضها هي معركة أن يبقى الشّعار التالي حيًّا في النفوس والضّمائر: مشروع إسرائيل غير شرعيّ وغير قانونيّ في المنطقة، مشروع إسرائيل خطر على المنطقة وغيرها… وهذا ما يحتّم توحيد الطّاقات والجهود في سبيل تحرير الأمّة، فكانت المقاومة عنوانًا من عناوين الوحدة الإسلاميّة الجامعة، بها نغيّر العالم، إذا فكرنا بحجم الأمّة كلّها.

المقاومة النموذج والمثال

        لم يكن السيّد ليُطلق الشِّعارات فيتركها معلّقة في الهواء، بل كان يسيّل هذه الأفكار ويجعلها واقعًا مَعيشًا، وهذا ما فعله مع المقاومة، فقد أطلقها لكلّ العالم المستضف كأنموذج يُحتذى في طلب الحريّة والتحرير، ورفض الظلم والخضوع للاحتلال، سواء للأرض أو الفكر، فقال “نحن عندما نريد أن نتحرَّك ضدّ إسرائيل، نهدف إلى أن نقدِّم لشعوبنا النّموذج الأمثل والحيّ والمتقدِّم… النّموذج الّذي يقول: إنّنا يمكننا أن نربك إسرائيل، وأن نهزمها، وأن نخرِّب معادلاتها”، فكما كان الداعم للمقاومة في لبنان، بالفكر والفتوى والمال، فكذلك كان داعمًا لحركات المقاومة في فلسطين والعراق وكل بلد يعاني من الاحتلال والظلم، فغدت المقاومة لديه إنسانيّة عالميّة، فربط بين تبنّي القضيَّة وتحديد مسارها، وأن تكون المقاومة من أجلها باليد والقلب واللّسان، فنكون اليدَ المقاومة، والعقلَ المقاوم، والفكرَ المقاوم، فيقول: “علينا أن نكون الفكر المقاوم الّذي يريد أن يقاوم أيَّ فكرٍ يريد أن يُفرَض على الأمَّة، أيّ واقع سيّئ يريد أن يحجب عن الأمَّة وضوح الرؤية، إنَّ علينا أن نكون الرّوح المقاومة، والسياسة المقاومة، والبندقيّة المقاومة. بهذا الانفتاح، يمكن لنا أن نبلغ الهدف”..

أبو البدريين

        قد يطوي الزمن صفحاتٍ من تاريخ الإنسان، إلَّا أن هناك مواقفَ تبقى عصيّة على النسيان والاندثار، ولا يمكن تجاوزها أو عدُّها كلامًا إنشائيًّا عابرًا. ومن هذه المواقف، رسالة السيد فضل الله للمجاهدين في عدوان تموز 2006، “أيّها  البدريّون الذين يستمدّون القوة من الله، ويستوحون روحية النصر منه، أيّها المجاهدون في “خيبر” الجديدة.. أنتم جيش الأمّة العربية والإسلامية، إنّ جهادكم سوف يصنع للعرب وللمسلمين والمستضعفين المستقبل الجديد الذي سوف تكون فيه الساحة كلّها للشعوب المستضعفة لا للمستكبرين… يا أحبتي.. يا أبنائي.. يا من عشتم طفولتكم الطاهرة البريئة، وشبابكم الواعي المؤمن المجاهد، معي وفي عقلي وقلبي وكلّ حياتي: لقد أعطيتم الأمة معنى الحرية في جهادكم، ومعنى العزة والكرامة في صمودكم، وجددتم العنفوان للمستقبل.. إنّ روحي معكم، وقلبي وعقلي معكم، ودعائي لكم، وابتهالي الى الله تعالى أن يتغمّد الشهداء برحمته، وأن يمنّ على الجرحى بالشفاء العاجل، وأن يشملكم برضوانه ومحبته في رفيع الدرجات وفي مواقع القرب منه.”.

إنّ هذه الرسالة الوجدانيّة التي تحمل عصارة فكر السيّد تجاه أبنائه المجاهدين المقاومين، وتمثّل خلاصة فكره في المقاومة والجهاد، وكانت منعطفًا ودافعًا في الصمود ولاحقًا الانتصار، وقد كلّفه هذا الموقف تدمير منزله والعديد من مؤسّساته في بيروت والجنوب والبقاع. وقد سُئل لاحقًا بعد انتهاء الحرب: سيدنا لقد كنت في هذه الحرب ملكيًّا أكثر من الملك، وقد دُمر منزلك ومؤسّساتك، لِمَ فعلت هذا؟ فأجاب بحدّة: أنا إسلامي منذ خمسين سنة، وهذه المقاومة هي الهواء الذي أتنفّسه!

        حماية المقاومة

كان يشدّد السيد فضل الله على حماية المقاومة في كلّ الظّروف التي نعيشها، والّتي يُراد لنا خلالها أن نسقط كأمَّةٍ في كلِّ التَّهاويل الإعلاميَّة والسياسيَّة، ويراد لنا أن نسقط في حركة المقاومة أمام إسرائيل، فيقول: “نعتبر – ولا نقولها شعارًا، لكنّنا نقولها بعقل بارد جدًّا- إنّ أيّ صوت يرتفع ضدّ المقاومة، أيًّا كانت المقاومة، إسلاميّة ووطنيّة، وإنَّ أيَّ تعقيدٍ لعمليّة المقاومة، يمثّل انتصارًا لإسرائيل”. قد يكون لنا ألفُ ملاحظة وملاحظة، ولكنّ هذه التجربة يجب أن تُحمى وتُصان، ويجب أن تُعمّم وتُطلق للعالم كحركة تحرر إنسانيّة شاملة.

        إنّ حركات المقاومة في العالم العربي والإسلامي لن تنسى إسهامات هذا الفقيه المقاوم المجاهد، ولا دعمه المعنويّ والماديّ، ولا احتضانه لكل المستضعفين في كل مكان، وقد عبّر الإمام الخامنئي عن هذا في بيان التعزية فقال: “إنّ المقاومة الإسلامية اللّبنانية التي لها حقّ عظيم على الأمة الإسلامية قد حظيت بحماية ودعم هذا العالم المجاهد”.

لا تفي بضع كلمات في إنصاف السيّد فضل الله ومسيرته المقاومة، ولكن بعض إضاءات على فكره وحركته من باب الوفاء، وفاء لمن أعطى حياته كلّها في سبيل إعزاز الأمة وكرامتها، وفي سبيل تنوير العقول وشحنها بالقوة الروحية الدافعة، على أن يثمر زرعه على الدوام انتصارات في أرجاء العالمين العربي والإسلاميّ، حتى تحرير آخر حبة من تراب فلسطين، “فلا أحلام من دون فلسطين، تسقط كل الأحلام عندما تسقط فلسطين”…

اساسيالسيد فضل اللهالسيد نصرالله