نديم ناصر – خاص الناشر |
جعجعة عنصرية درجت على ألسنة أيتام 14 آذار مؤخرًا، تجلّت بالترويج لأفكار انقلابية ومفاهيم هدّامة تعبّر عن عدم تقبل الشريك الآخر في الوطن، ما ينسف عقد الطائف والهوية الوطنية، ويعيد لبنان إلى زمن الحرب الأهلية، والتقسيم المناطقي، ما بين شرقية وغربية، ويضرب كلّ مبادئ الدستور حول الشراكة المجتمعية وحرية الدين والمعتقد، مدللًا أن ثمة فئة لا تؤمن بنهائية لبنان كوطن ولا تزال الفدرلة تدغدغ أحلامها.
أن يخاطب البعض شركاءه في الوطن بعبارة “ما بتشبهونا” ليس من قبيل الصدفة ولا زلة لسان عابرة، بقدر ما هو تعبير جلي عمّا يختلج في بال هؤلاء من أفكار استعلائية غريبة عن مجتمعنا، ونظرة للبنان بعيون انعزالية، لكأنه مطوّب باسمهم. هذا النهج التكفيري للآخر، والعنصري الذي ينظّر له أقزام وأبواق أقل ما يوصف به أنه اعوجاج في العقد الاجتماعي لعنه الزمن وحاربه العالم لإحلال مبدأ المساواة مكانه، وهو نهج لا يختلف عن ايديولوجيات ترى أنها بمقام “شعب الله المختار”.
أحد الوطنيين القدامى علّق على ما يبثه الانعزاليون، بالقول: “الحمد الله أننا لا نشبههم، فشتان بين لبنان الحرية والكرامة وبين لبنان الخنوع والاستسلام لأجندات خارجية، وبين مستتبع يرفع شعارات السيادة والاستقلال الوهمية، وبين من يبذل دماءه لتحرير وطنه وشعبه، والدفاع عنه.. فالخيانة الوطنية لا توضع بميزان الشرف والتضحية، وشتان بين من يصنع الحياة للآخرين، ليبني وطنًا حرًا مستقلًا وبين من يرى ثقافة الحياة على موائد السفارات البعيدة كلّ البعد عن مصلحة لبنان والتي تصب أولًا وآخرًا في خدمة “إسرائيل” وأمنها.”..
لم تجد تلك القلة المغردة خارج الإجماع الوطني من يشبهها داخل لبنان، لربما وجدت ضالتها وشبيهها، يوم ارتضت أن تضع يدها بيد المحتل “الإسرائيلي” لاعتلاء الرئاسة بحراسة دبابات العدو، وربما يرون في مرآتهم طهاة شارون وهم يعدون له أطباقه المفضّلة.
والتشابه بين اليمين الانعزالي وكيان الاحتلال ليس جديدًا فقد فضحت وثيقة كشفها “”الموساد”” قبل سنة ونصف أن علاقة “إسرائيل” مع هؤلاء تعود للخمسينيات. واللافت أن “الاحتلال الإيراني” المذموم اليوم من هؤلاء كان نفسه محمودًا من قبلهم يوم كان نظام الشاه محمد رضا بهلوي يرسل طائراته لشحن السلاح من “إسرائيل” إلى لبنان، دعمًا للرئيس اللبناني كميل شمعون عام 1958.
لعله الإفلاس السياسي ما أوصل تلك القلة الشاذة من اللبنانيين إلى حد التعرض للمعتقدات والأديان والتعبير عن رفضهم لها. حماسة هؤلاء لم نرها بمواجهة ظواهر بعيدة كلّ البعد عن النسيج اللبناني كـ”الشذوذ الجنسي”، و”جنود الرب”، المحسوبين على فريق الوزيرة والإعلامية السابقة التي خرجت للتشدق بانتقاد مراسم عاشوراء عند الشيعة ضاربة عرض الحائط بمبدأ الحريات الدينية المصانة دستوريًا وقانونيًا.
تغريدات الوزيرة من خارج السرب اللبناني، وصفها أحد الوطنيين القدامى بالـ”خطيرة جدًا” لكونها تفتح الباب على المس بشعائر الآخر ومعتقداته، وسأل: “ماذا لو خرج أحد المسلمين ولفظ طريقة ممارسة تلك الوزيرة لشعائر ديانتها، هل من الجائز الاستخفاف بطرح المعتقدات والشعائر الدينية بسطحية غليظة وفظة؟ وهل يجوز في القرن الواحد والعشرين ترويج مفاهيم تنم ليس فقط عن عدم تقبل الآخر، بل حتّى عدم تقبل ممارساته الدينية؟”. داعيًا لوضع حد لهكذا أفكار مقيتة، تشوه الموزاييك اللبناني الغني بتعدد وتنوع طوائفه وثقافاته، التي ارتضت أن تعيش مع بعضها بعضًا أرضا وشعبًا ومؤسسات. كما دعا الوطني المخضرم النيابة العامة للتحرك السريع ضدّ مروجي هذه السموم العنصرية الفتنوية، واعتبار أي تصريحات مماثلة بمثابة إخبار، كي لا تصبح جزءًا من ثقافة جاهلية تكفيرية بذلت دماء غالية لإبعاد كأسها المرة عن حدود لبنان، لا سيما أن المراسم الدينية ليست استحقاقًا أو قضية سياسية مطروحة للاستفتاء الشعبي، أو لتبادل وجهات النظر، بل جذور عقائدية كفلها الدستور اللبناني لكل أطيافه بنصه على حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية لكل لبناني، من هنا من غير المسموح لأحد المس بها أو التطاول عليها، لكونها خطوطًا حمراء لا يجوز إدخالها في زواريب اللعبة السياسية.
رحم الله جبران خليل جبران، يوم ضمّن منحوتته الأدبية “البدائع والطريف” تصوره للبنان وكيف يراه، فكتب قائلًا: لكم لبنانكم ولي لبناني. لكنّه لم يدرِ أن عباراته ستصبح يومًا شعارًا سياسيًا تقسيميًا انقلابيًا وستحوّر، لتحرف من أقزام الكتبة لهدم الوطن الذي كان يحلم به، من خلال عبارات “ما بتشبهونا.. “لبناننا آت”، لنا لبناننا ولكم لبنانكم”. ويكفينا أن مُطلِق عبارة “ما بيشبهونا” حين حاول أن يجبرها استصغر نفسه وحقّرها على الملأ ليعلي شأن زعيمه السياسي، الذي نصحه بالنظر في المرآة وحينما فعل أخبرته أن الطيور على أشكالها تقع وأنه لا يشبه خلقة ومنطقًا إلا أمثاله ممن ارتضوا المهانة والمذلة، فشتان ما بين أشباه الرجال وعاظ سلاطين الحرب الاهلية لقاء حفنة دنانير أو موقع عند الامير، وبين الرجال الرجال وبين التفكير الوطني والتفكير الميليشياوي. ويختم الوطني المخضرم: “لذا نحمد الله ونشكره أنا لا نشبهكم، فالوطنيون الوحدويون بالتأكيد لا يشبهون التقسيميين الفتنجية، والمنفتحون لا يشبهون العنصريين الانعزاليين، فشتان ما بين ملائكة السماء وشياطين الأرض”.