محمد علي – خاص الناشر |
أخبرني بعض الأصدقاء عن مسلسل مثير للاهتمام، يروي قصّة رجل له علاقات كثيرة وكاريزما مميّزة، يؤدّي دورًا اجتماعيًّا حسّاسًا جدًّا حيث يمثّل حلقة وصل تربط بين السّلطة (الشّرطة والقضاء)، والعصابات في داخل السّجن، والعصابات خارج السّجن، ويحاول قدر الإمكان أن يحافظ على ما نشأ من “توازن” في هذا المثلّث الخطير عبر مختلف المراحل من أجل السّيطرة على الشّارع وحقن الدّماء بين أبناء المدينة. فهو العمدة من غير انتخاب، والوالي عليها لكن من الأسفل، لا الأعلى، والمعالج للتّفاصيل غير المرئيّة عند فشل المتصدّين الرّسميّين..
إلّا أنّه يُستدرج كثيرًا نتيجة التّزاحم بين الأطراف الثّلاثة فيضطرّ لمخالفة بعض القوانين والمبادئ من أجل تمشية الأُمور وحفظ المصالح الآنيّة. لكنّه يتميّز عمّن يفقه لغة القانون دون لغة الشّارع ومن لا يهمّه تأثير نظام العصابات في السّجن على الشّارع من حيث الضّبط والفلتان، كما أنّه ليس من آحاد الفساد المحض، أي أنّه ليس مجرمًا بالمعنى الاصطلاحيّ. هو أشبه بـ “الحلقة المفقودة”، أو المترجم الذي يجيد اللّغتين. لديه مكتب ومساعدة تقوم بترتيب برنامجه اليوميّ، يرتدي بدلة ويشرب قهوته في أوّل النّهار، ثمّ يبدأ بمتابعة الملفّات ومراجعة القضايا المتنوّعة، ولولا مبادرته – بحسب ما يُراد قوله – لانهارت أركان المدينة وعمّها البلاء..
وقد استوقفني المسلسل لأنّه يعبّر عن حقيقة الوجود من جهة معيَّنة، فهو يشير إلى معضلة موجودة في عمق الوجدان الاجتماعيّ، وهي: إنّ الإنسان عالق بين مذهبين في النّظر إلى البيئة التي تحيط به، بل وإلى نفسه كما قد يظهر مع بعض التَّأمُّل. وعليه أن يختار: هل يؤمن الإنسان بإمكانيّة تحصيل الأكمل الذي يمدحه العقلاء، فيحاول الوصول إليه، أو ينظر إلى الفوضى على أنّها تجلٍّ للنّقص المؤكَّد، فيتعامل معه تعامل المؤمن بلابُدِّيَّة الفساد، ويقتصر حينئذٍ في تشخيص دوره على الاهتمام باختلاق آليّات التَّكيُّف مع الفوضى؟
أو إن شئت فقل: إمّا أن ينتمي إلى مذهب النّظام، على أن لا يترك معالجة الفوضى التي تتولّد في المجتمع بحكم كون محاولة الوصول إلى الفضيلة غير معصومة عن الخطأ والزّلل، إلى أن تظهر آثار “الإصلاح” في الخارج مع تراكم التّجارب وتطوّر جودة الحلول؛ أو أن ينتمي إلى مذهب اللّانظام، مضطرًّا لتحمُّل عواقب عدم السّعي إلى التّنظيم الشّامل والاكتفاء بالتّرميم من أجل توليد حالات خاصّة من التّوازن. فينصبّ اهتمامه، بل وإخلاصه، على ملء الفراغات التي خلّفها النّمط النّظاميّ بالمجرى السّياسيّ والقانونيّ والتّعليميّ والاقتصاديّ المعتاد..
بعيدًا عن التّخويف والارجاف والسّلبيّة القاتلة، أرى أنّ المجتمع كلّما ازداد تطوُّرًا وانتظامًا، كانت إجابة الإنسان عن هذا السّؤال وكان اختياره في هذه المعضلة أشدّ تأثيرًا عليه وعلى من حوله؛ طبعًا هذه المعضلة قد غزت جُلّ المجالات وبرزت في ممارسات السّياسيّين وتشريعات القانونيّين ومواقف المؤسّسات الدّينيّة عبر التّاريخ، فهي قد تتمثّل في عفو المعلّمة عن تلميذ نظرًا لأحواله المنزليّة، أو صيرورة دفاتر الدّيون في الدّكاكين حجرًا في بناء الاقتصاد المقاوم، وغير ذلك. لكن مع أنّ المذهبين لا يخلوان من نقص بيّن، أو لا أقلّ كذلك يبدوان في أيادي تعابير البشر، يبدو أنّ ثانيهما أشدّ خطرًا، وإن كنت أميل إلى مذهب اللّانظام في عدّة قضايا على تفصيل لا يسعه المقام..
والسّبب في ترجيح الأوّل على الثّاني هو أنّ ديمومة المجازفة وتجويز المخالفة يلزم منها الهرج والمرج، وهي مذمومة عقلًا، فكيف إذا استُبدل نمط النّظام بحوادث اللّانظام فصار عبارة عن دورات وجولات تعيد ترويح شوائب الواقع القائم وتوجد اختلالات جديدة؟! إذن يبدو أنّ المذهب الثّاني لا يحسب حسابًا نظريًّا للاستتباب، بل هو يستقبح فرضيّة كون المجتمع البشريّ قابلًا للوصول إلى حالة من السّويّة والنّظاميّة الحقيقيّة، ويطالب بتجاوز تلك القراءة والفناء في الاعتبارات. وبكلمة: هو يضع الرّزايا في موقع الأُلوهيّة، يقدّسها ويسلّم لها ويعبدها حتى يأتيه اليقين، في حين أنّ اليقين معناه الاستقرار، أي عكس اللّاتوازن..!
فالمدنيّ يتخلّى بتبنّيه هذا المذهب عن بديهةٍ تقول بأنّ ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه، وعن أُخرى تقول بأنّ النّقص بعد الكمال قبيحٌ عقلًا؛ ولمّا كان مقرًّا بأبديّة المصيبة إقرار البؤساء، بدّد جوهرها وعِبرتها، وضيّع باليأس والتّطبيع ثمرتها، كلّما “رمّم” فسادًا بآخر أخلّ وفرّط بما في اليد، مكرِّرًا ما ثبت عدم استقامته، إذ لم يعد هناك شيء اسمه “الانتظار” حتى يسكن متطلّعًا نحو النّتائج. إنّها معضلة بكلّ ما للكلمة من معنى، لأنّها تحتّم على كلّ منّا المواجهة وتحرّم عليه القعود في موارد يكون وجه الحقّ فيها معلومًا، وإن كان الطّريق إلى إحقاقه شائكًا وكان قاطعه ملومًا. لكن بعد رفض المذهب القائم على إعادة لحد ما حشرته وكشفته تجارب البشريّة من دروس وخبرات، يبقى السّؤال: هل من نظام قادر على ملء الفراغات بنفسه، أو استيعاب الفوضى إلى حدّ معقول لغاية بزوغ الحل المثيل؟ فلعلّ اليأس من كافّة التّجارب شرط التّسليم لكمال البديل؟