المسلمون في أميركا والانتخابات المقبلة..

محمد علي – خاص الناشر |

كنت قد أحدثت بلبلة في بعض الجاليات الإسلاميّة الغربيّة منذ سنين عندما تحدّثت عن مفهوم الهجرة في الإسلام وقدّمت محاولة لتشخيص فتاوى وكلمات الفقهاء لا سيّما وليّ أمر المسلمين السيّد الخامنئيّ حول هذه القضيّة. وكان موقفي كمكلّف يسعى قدر المستطاع إلى تحصيل براءة الذِّمَّة أنّه يجب على المسلمين إعادة النّظر في استقرارهم في أميركا. ولم أعدل عن هذا الموقف، كيف وهو ليس نتاج قناعات أو أهواء شخصيّة، وإنّما هو تشخيص للتّكليف في ضوء ما ندركه من الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ، ونحن نعلم أنّ موقف الشّرع من هذه المسألة هو أنّ الهجرة إذا توقّف عليها عمل واجب وجبت، وإذا توقّف عليها عمل مستحبّ استحبّت.

اليوم، هناك مجازر وإبادة جماعيّة يرتكبها العدوّ الصّهيونيّ بحقّ الشّعب الفلسطينيّ المظلوم، يشاركه في شرّها النّظام الأميركيّ مادِّيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا واستراتيجيًّا، وعقائديًّا. والمسلمون في أميركا بين مغفّل ليس لديه موقف ممّا يحصل، ومثقّف “يتأسّف” للخسائر البشريّة وينتظر الفرج من المنظّمات الدّوليّة. نعم، فيهم ثلّة من أهل البصائر الواعين المخلصين، الذين يؤدّون تكليفهم ويقومون بجهاد التّبيين، لكنّهم خارج محلّ الكلام إن شاء الله تعالى، إذ إنّ موقفهم واضح وصريح، وهو إعلان البراءة ممّا يقوم به النّظام الأميركيّ جملة وتفصيلًا، وقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع): “إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط. وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}”.


لكنّ الانتخابات على الأبواب، والمسلمون في أميركا أمام اختبار جديد. وكما في السّابق، يوجد بين المسلمين قراءتان للواجب تجاه الانتخابات. قراءة تقول بأنّ الخوف من ضغائن اليمين المتطرّف المعادي علنًا للإسلام والمسلمين يبرّر حشد النّاس وحثّهم على التّصويت لمرشّح الحزب الدّيمقراطيّ، عسى أن تشمل المسلمين سياستهم القائمة على إيديولوجيا قبول الجميع دون قيود وشروط؛ وفي المقابل، قراءة تصرّ على أنّ الخطر الأكبر يكمن في الثّقافة اللّيبراليّة التي تهدّد أبناء الجاليات وتعرّض مبادئ الإسلام للخطر، ممّا يجعل الميل إلى المحافظين أولى وأسلم بلحاظ مواقفهم التي قد تتناسب مع مواقف المسلمين في قضايا عديدة مثل الإجهاض والشّذوذ الجنسيّ، وما شاكل ذلك..


لنفترض أنّ تعصُّب المرشّح الجمهوريّ لا يتعدّى كونه رأيًا شخصيًّا، ولا يؤثّر في الواقع السّياسيّ مع ما يضمن الدّستور من حريّات دينيّة. هنا يرد إشكال وهو أنّ “رأيه الشّخصيّ”، حتّى وإن لم يؤثّر سياسيًّا، يبقى تأثيره على المستوى الاجتماعيّ والثّقافيّ لأنّه يفسح المجال لمزيد من العنصريّة والإسلاموفوبيا، ممّا قد يؤدّي إلى زعزعة الوضع الأمنيّ للمسلمين. نعم، قد يُقال: إنّ تقديم مواجهة الضّرر الأمنيّ المحتمل – والذي ليس منظّمًا – على مواجهة الضّرر الثّقافيّ القطعيّ – والمنظّم في طبيعته – مخالف للعقل من جهة كون المفاسد المترتّبة على تحكيم إيديولوجيا اليسار المتطرّف تحظى بغطاء قانونيّ وسياسيّ، وبالتّالي هي مفاسد حتميّة ومباشرة وسوف تطارد المسلمين إلى داخل بيوتهم. من هنا يفضّل البعض أن يميل إلى المحافظين على الاصطفاف إلى جانب وجهاء الجاليات المسلمة خلف منابر اللّيبراليّين..


أمّا من النّاحية الشّرعيّة، فلا شكّ في حرمة التّصويت لمرشّح يتباهى بأنّه أفضل أصدقاء “إسرائيل”، ولا لآخر يتفاخر بصهيونيّته. وكما أنّه لا يجوز التّصويت لمرشّح يهدّد المسلمين بالحرب، كذلك لا يجوز التّصويت لمرشّح يحارب المسلمين فكريًّا وثقافيًّا من خلال إقحام كفره في مناهج التّعليم وعبر بعض السّياسات التي تتنافى مع أحكام الشّريعة. بل الطّرفان من مصاديق الظّالمين الذين لا يحكمون بما أنزل الله، والمفسدين الذين {إذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. ومن هنا لا مجال أبدًا للتّصويت لأيّ منهما لما في ذلك من تأييد للباطل وإعانة على الإثم. ولا خروج عن تلك الكليّة إلّا إذا ثبت أوّلًا أنّ الخطر في أحد الطّرفين أشدّ من الثّاني، فيُنتخب الثّاني حينئذٍ من باب دفع الأسوأ بالسيّئ، هذا فيما لو ثبت بعد ذلك أنّ عدم التّصويت والمشاركة في الانتخابات يؤدّي إلى فوز الطّرف الأشدّ خطرًا. وكيفما كان، إن كان حال المسلمين في أميركا لا يحكي ضرورة إعادة النّظر في مسألة الهجرة، فلا بُدّ أن نسأل الذين تصدّوا لشؤونهم منذ أن حطّت رحالهم وعدّوا أنفسهم من أهل الحلّ والعقد: ماذا ستفعلون الآن؟


في الواقع، كلٌّ لديه وجهة نظر وتشخيص يحكي همومه، ولذا فإنّ إثبات كون أحد الطّرفين أشدّ خطرًا من الآخر ليس بالأمر السّهل. بل إنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه لأصحاب الموقفين: أنّ الضّرر لا مفرّ منه، إلّا أنّ مقاومته أمر ممكن من خلال التّربية البيتيّة. وهنا نسألهم: إذا كان كذلك، فلم ترجّحون المشاركة في الانتخابات – مع ما تعلمون من حرمة تأييد الباطل – على عدم المشاركة؟ هل الأولويّة في المشاركة السّياسيّة وتعزيز النّظام وديمقراطيّته، أم في تحصيل براءة الذمّة؟! لا شكّ أنّه اتّضح لكثير من المسلمين في أميركا اليوم أنّ المشاركة في الانتخابات لا تخلو من إشكال في الوقت الرّاهن مع ما يقوم به النّظام الأميركيّ في فلسطين المحتلّة واليمن والعراق. لكنّ بعضهم يقول بأنّ الواجب على المسلمين في أميركا هو حفظ مصالحهم، وبالتّالي لا بُدّ من المشاركة في الانتخابات، فإنّه لا يمكن أن تقدّم ملفّات المسلمين حول العالَم على أولويّات الجاليات.


هو منطق عجيب أولدته الامبراطوريّة ووضعته على عتبة دار الفرد المسلم، فنسي قول رسول الله (ص): “من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم؛ من سمع منادًا ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم”، وراح يخوض مع الخائضين، يتحدّث بالأدبيّات والمعايير التي سنّها الطّاغوت على أنّها قوانين تكوينيّة. أمّا الهجرة، فكأنّها فكرة غير واردة أصلًا. مع أنّنا عندما تحدّثنا عن مخاطر إسقاط مفهوم الهجرة بمعناها الإسلاميّ على استقرار المسلمين في أميركا، قلنا بأنّه يكاد خروج المسلم من حالة الخضوع والاعتذار والانقياد السّياسيّ – وبالنّتيجة تضييع الهدفيّة الإيمانيّة – أن يكون مستحيلًا وهو يعيش في كنف الطّاغوت، يلين قلبه لنشيد الدّيمقراطيّة الوهميّة، يأكل ويشرب بإلهام من الدّعايات التّلفزيونيّة، يجد نفسه مهمّشًا في الانتخابات فيسخّر وجوده لفوز “أقلّ الشرَّين”، فيتّخذ من دون الله أربابًا، ويسمّيها “حريّة”!


لكنّها الغفلة خلّصنا الله منها؛ سلعة يبيعها الذين {يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} في مغامرات مقدّمتها “إثبات الوجود” وخاتمتها التّطبيع السّياسيّ والثّقافيّ. وأنّى لنجوم المسرحيّة أن يُقرّوا ببطلان ما يمثّلون؛ أوَيُتوقّع ممّن تجاهل فطرته إذا همست “لا حبيب إلّا هو وأهله” أن يترك ما ليس له وينزل عن كرسيّه، ويكفّ عن مدّ يد الشّرور إلى من يأبى ذلك عملًا بـ {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؟!


القراءة الثّالثة تقول: لا تصوّتوا، فإذا كان الرّئيس الأميركيّ سيحارب المسلمين سواء فاز مرشّح الجمهوريّين أو مرشّح الدّيمقراطيّين، فالأجدر بكم أن تضمنوا براءة الذِّمَّة كما يفعل أولو الألباب منكم. روى الشيخ الصّدوق في ثواب الأعمال عن أبي جعفر (ع) أنّه قال: “قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الظّلمة وأعوانهم ومن لاق لهم دواةً وربط كيسًا أو مدّ لهم مدّة قلمٍ فاحشروهم معهم”.

اساسيبايدنترامب