عائد إلى سورية

رنيم أحمد ددش – الناشر |

يتعذّر على السوريين أن يقاوموا للبقاء في بلدهم المُنكل به بفعل الحرب والتناحر، فترى أقدامهم تتهيأ للرحيل، وجوازات السفر خاصتهم مُستنفرة لخُتم المغادرة، لا سيما أولئك الذين خسروا أرواحًا وممتلكات ممن لم يعد يربطهم ببلدهم سوى خيط رفيع رقيق قد ينقطع مع أعوام جديدة في الغربة المحبّبة، في بلاد ليس في سمائها غيوم حرب مقبلة أو متجددة، لكن بعض منهم ممن غادروا لم تروق لهم الحياة خارج الحدود السورية فعادوا ومعهم تجربتهم وقصصهم.

العودة من دبي


إبراهيم جلال مذيع سوري ومعلق معروف في بلده، قصد دبي قبل عامين بهدف تحسين وضعه المعيشي والبحث عن فرصةٍ أفضل.
يقول جلال: “استطاعت دبي أن تقدم تسهيلات للقادم إليها مع مجموعة من المغريات متبوعة ببروباغندا فعند الوصول إليها تبدو وكأنها ليست دبي التي تقدم نفسها للعالم.
يصف جلال طبيعة الحياة في “دبي” أن الإنسان هناك من المُمكن أن يتحول إلى روبوت عندما يجد فرصة عمل وقد يصطدم بالضغط النفسي الذي ينتج عن الخوف من إنهاء الخدمة بشكل مفاجئ.
خيبت “دبي” أمل جلال فلم تكن أرض تحقيق الأحلام كما يروج، ففرص العمل لا تخلو من الواسطات والمحسوبيات والمعارف على حد تعبيره.
يقولُ أيضاً: “عاملتني إدارة أول مؤسسة صحفية عملت بها عندما وصلت باستغلال، وتقاضيت راتبًا أقل مما أستحق لكوني قادمًا من بلادٍ تُعاني أزمة بزعم أننا نحن القادمين من البلاد المنكوبة “نرضى بالقليل”، وتعرضت للمضايقة وللـ”تفنيش” من المدير ،ثم انتقلت لمكان آخر وتحسن مدخولي الشهري وأصبح جيدًا جدًا لكن روحي لم تتطابق مع تلك البلاد، لا مع مناخها ولا مع طقسها”.
استهلكت دبي طاقة جلال، ولم يعد يحتمل شكل الحياة التي لا تشبهه، فعاد إلى سورية واستقر بين الأهل والأصدقاء

“يا ندامة الكُسعي”

كان حسين ابن الـ22 ربيعًا يخشى من أن يأتي موعد اقتياده للخدمة في الجيش السوري، على اعتبار أن السَوق إلى خدمة العلم في ظلّ الحرب ستغيّبه عن الحياة المدنية الطبيعية ليس أقل من 7 أو 8 سنوات، أو ربما لا يتممهم وتقتله الحرب.
قرر الشاب أن يذهب إلى العراق قبل آوان “الخدمة”، والهدف من سفره مساعدة أهله والتملص من اللحاق بالخدمة وتجميع المال لدفع البدل الذي يُسقط عنه “خدمة الجيش” في حال عودته واستقراره. يقول حسين: “وصلت العراق بعد أن دفعت الكثير من المال وارتميتُ بأحضان الحديقة عندما تعذّر عليّ أن أجد سكنًا فور وصولي، واجهت القساوة والاستعباد في العمل، ولحيتي التي كنت أخشى من جزها في سورية في حال لحاقي بخدمة العلم، اضطررت إلى حلقها في العراق انصياعًا لأوامر صاحب العمل الذي عاقبني بها عن تأخيري 5 دقائق مع خصم 20 ألف دينار”.
يضيف الشاب النادم على سفرته: “وصل عدد ساعات العمل إلى 18 ساعة في اليوم، تآكل جسدي ومرضت مرارًا وعندما اتأوّه أذكر والدتي وحنوها، ومع كلّ مطب جديد في حياتي بالعراق التي لم تحبني ولم أحبها، أفكر بالعودة إلى سورية”.
يعمل حسين الآن “عتّال في سوق الهال“ في مدينة اللاذقية السورية، ويعلق على عودته بالقول: “الذل في سورية أحسن من الذل ببلاد الغربة، لولا الخدمة والجيش ما حدا بيطلع”.

العراق جميلة… لكن تفطّر قلبي

أم باسل، مُدرّسة تلقت عرضًا للعمل في العراق لدى عائلة ثرية على أن تكون مهمتها تربية أطفال العائلة والإشراف على تعليمهم. قبلت السيدة الخمسينية عرض العمل بدافع تحسين وضع عائلتها المهجرة، والسبب الأقوى للقبول هو مساعدة ولديها على إتمام مشروع تخرجهما من الجامعة، “هَي السنة ولادي تخرج والمشاريع بدها مصاري ومادة وأنا ما بقدر شوفهن قلال.. بدي يكونوا الأفضل”.
وصلت السيدة للعراق قادمة من سورية، وتحدد عقد العمل المُبرم بأن يكون لمدة سنة واحدة، ونجحت أم باسل في المهمّة الموكلة إليها بتدريس الأطفال، ولم ترَ من العراق والعائلة إلا الخير والطيب، لكن شيئًا فشيئا أصبحت السيدة التي وصلت إلى العراق في أحسن حال يتناقص وزنها تدريجيًا، جسدًا في العراق وعقلًا في جنوب دمشق حيث عائلتها، ومع كلّ مكالمة هاتفية تجريها مع أولادها وإخوتها وأمها يَلحقُ بالأمر موجة من البكاء والتمني لو أنها بينهم، أخلَّ اشتياق وحنين أم باسل بالعقد المبرم، وصارحت العائلة التي تعمل لديها بأنها لم تتحمل الغربة والابتعاد عن عائلتها وأهلها في دمشق، وطلبت منهم مسامحتها على قرارها بالعودة إلى سورية على أن تعوض لهم أجور ما تكلفوه، وهم بدورهم وافقوا على عودتها مع تقديرٍ للموقف.

حيرة بين وحيدي وهامبورغ!!

انضم ياسر محيي الدين، عام 2015 إلى مسير التغريبة السورية، حينها كانت قد نشطت الهجرة إلى خارج سورية هربًا من واقع البلاد المؤلم. وتوجه برفقة 7 آخرين إلى ألمانيا، رحلته إلى تلك البلاد لم تصطدم بالكثير من الصعوبات والعوائق، تعلم اللغة على عجل، وحصل على إقامة بشكل سريع مع عمل.
يقول محيي الدين عن جلسة المحاكمة للحصول على الإقامة: “تكلمتُ بالإنكليزية والألمانية مع القاضية التي سألتني عن ديني ومذهبي وسبب لجوئي إلى ألمانيا، ولم أتردّد في القول إني مسلم شيعي ولم أقصف بالبراميل المتفجرة لكنني حوصرت مع أهالي بلدتي من قبل متطرّفين مناصرين لجبهة النصرة”. وأضاف: “قلت لهم لا يوجد تفرقة في سورية بين سني وشيعي لكن من اختلقها هي بلدان أخرى”.
يتابع: “عندها، سألتني القاضية: مثل من ومن تقصد! ؟مرة أخرى لم أتردّد وتجرأت أن أقول أميركا هي من بثت التفرقة عندها أعجبت القاضية بجرأتي وحديثي، والمفاجئة كانت أنني حصلت على إقامتي بعد أسبوع من الجلسة”.
يردف محيي الدين بثقة ويمرر رسالة مبطنة: “الحكومة الألمانية على علم بأنه لا يوجد لدى الجالية الشيعية متطرّفين وإرهابيين”
بقي محيي الدين في هامبورغ سنة و9 أشهر، وكلّ ما صعب على غيره من إقامة ولغة وعمل حصل عليه بيُسر، واجهته بعض الصعوبات التي ارتبطت بالتزامه الديني كمصافحة النساء وأكل لحم غير حلال، وتأخرت إجراءات لم شمل عائلته ولم يحتمل البعد عنها، لا سيما في وقت كان فيه ابنه الوحيد أحمد الذي يمر بمرحلة المراهقة أحوج لوجودِ أب ينصح ويرشد، عندها وقع الأب بين خيارين إما أن يكسب نفسه ماديًا أو يكسب عائلته. عاد أبو علي إلى سورية غير نادمٍ مع اثنين آخرين من دفعته التي هاجرت إلى ألمانيا ممن لم ترق لهم الحياة في أوروبا، وابنه الوحيد دخل كلية الطب.

نمط الحياة في ألمانيا أخافني

ينحدر أبو عبدو (50 عامًا )من مدينة حلب السورية، في عام 2015 احتدمت الاشتباكات قُرب منزله القريب من الملعب البلدي، تخوف من أن ينال رصاص الحرب من عائلته، عزم بيع سيارته وأرضه للسفر، تمكّن من الهرب إلى تركيا ومن ثمّ اليونان وصولًا إلى ألمانيا التي كانت المقصد، وعند وصوله استقر مع عائلته في “كامب”.
يقول الرجل الخمسيني “كان كلّ شيء على ما يرام لكن لم أكن مرتاحًا لشكل وطريقة الرعاية الصحية التي تحمل تعقيدات وإجراءاتٍ عدة في ألمانيا على غير ما اعتدنا عليه في سورية من مرونة”. لكنه وعلى حدّ قوله “كانت تلك المشكلة من صغائر الصعوبات أمام قبول نمط البلاد التي تنتشر فيها العلاقات غير الشرعية، المثلية، والبغاء، والحيوانات البشرية في مجتمع مستضيف لا أستطيع فيه الرفض أو المسايرة”.
يتابع: “خفت على بنتاي اللتين كانتا في سن المراهقة من الانجرار والميل إلى نمط الحياة في ألمانيا، خفت عليهم أكثر من رصاص وقذائف الملعب البلدي في حلب “. جلس أبو عبدو مع أفكاره في فترة الحجر الصحي أثناء كورونا واتهم نفسه بأنه مخطئ في اختيار وجهة اللجوء، وأنه يجب عليه البحث عن وجهة أخرى، وإن لم يجد فلا مانع من العودة إلى سورية، فهو على حدّ قوله لن يواجه توقيف أو اعتقال إن عاد لكونه لم يحمل السلاح لصالح أحد ولم يناصر أحدًا ضدّ الآخر.
في عام 2022 عاد الرجل إلى سورية بشكل نظامي ضمن برنامج يدعم العودة الطوعية، لم تقبل زوجته وابنتيه في بادئ الأمر، واضطرّ لمناقشتهم وإقناعهم بأنه في هذه البلاد التي لم يتفق مع قوانينها لن يحصل على الحرية في تعليم ابنتيه الطرق السالكة إلى الصواب، وسيكون مهدّدًا بأن تُسحبا منه عند المنع اللازم وسيخسر الطرفان، أجمعوا بعدها على العودة واستقروا في حلب.

فجأة أنا داخل الحدود السورية

عبَرَ سعيد الحدود السورية عام 2016 متجهًا إلى تركيا، ولم تكن أوروبا هدفًا له، تأقلم مع طبيعة البلاد وأحب نمط الحياة واستقر فيها حتّى عام 2021، تعلم مهنة صناعة المعجنات وتمكّن من توفير المال إلى أن تغيرت نفوس الأتراك ووضع بلدهم الاقتصادي: “بطلوا يحبونا متل أول ماجينا، ما عم نشوف منن غير العنصرية والوضع الاقتصادي صار سيئ”، عندها عزم على الانتقال إلى أوروبا واتفق مع أحد المهربين للخروج من تركيا لقاء 6000$، فشلت محاولته الأولى لكن الثانية كانت على مشارف النجاح، قطع الطريق سيرًا على الأقدام مدة عشرة أيام، ينام نهارًا ويسير ليلًا بين الخنازير والكلاب، ويحتفظ بعبوات المياه لإعادة تعبئتها للشرب من المستنقعات أو الأنهار، وصل بعدها إلى العاصمة البلغارية ثمّ تفاجأ هو ومن معه بطائرة “درون” تحوم فوقهم، دقائق بعدها وكانت الشرطة البلغارية بينهم، ألقت القبض عليهم وأعادتهم إلى الحدود التركية، ثمّ جرى ترحيله إلى الشمال السوري بعد التدقيق على قيد الكملك الخاص به والذي كانت قد انتهت صلاحيته.
يقول سعيد ابن الـ 28 ربيعًا: “في اليوم الذي تم به ترحيلي إلى الشمال السوري استقبلوني عناصر “الجولاني” من معبر باب الهوى في إدلب وأخضعوني للتفتيش و”التفييش”، نمت ليلتين في الشارع وليلتين في الجامع، ولم أستوعب ما حصل، حاولت الهروب مجددًا إلى تركيا عبر جهة نهر العاصي فانتبهت لي الجندرما التركية وخضبت جسدي وأعادتني مجددًا إلى الشمال السوري، فكرت بعدها بالانتحار وابتلعت 20 حبة “بروفين”، فأنا لم أعد أحب سورية ولا أستطيع البقاء فيها”.
تقيم عائلة الشاب في مدينة حلب الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، ويعتقد سعيد أنه في حال قرر الانتقال من إدلب إلى حلب حيث عائلته فإنه سوف يُتهم بالعمالة والخيانة من قبل الحكومة السورية من جهة، ومن قبل المعارضة من جهة أخرى.
استسلم سعيد لأمره والواقع، وبقي في إدلب، يحاول أن يُكفي نفسه بعد ما خسر كلّ ما جمعه، يعبّر عن خوفه من أصوات الطائرات التي عادةً ما تسمع في أجواء المدينة والتي تترصد مقار الفصائل المسلحة، ولا يرغب في أن ينضم إاى الفصائل التي تحمل السلاح والتي تتقاضى 35$ وسلة غذائية وتغتنم “بارودة” من معركة على حدّ قوله، يحاول أن يبحث عن عملٍ مدني علّه يتمكّن من توفير المال مجددًا والعودة إلى تركيا بشكل نظامي.

اساسيالهجرةسوريا