تبدو حالة المراوحة الإسرائيلية في غزّة قاتلة للكيان ولقادته. ومع تكرار المناورات البرية العسكرية على كامل جغرافيا قطاع غزّة إلا أن النتائج كانت صفرية على العائد الاستراتيجي لهذه المناورات.
ومع تحول الكمين الذي دخل إليه الجيش الإسرائيلي في غزّة، رغم الدمار والمجازر، إلى حالة استنزاف قاتلة لكل البنيان الاستراتيجي “لدولة إسرائيل”، ولأنّ المقارنة بين ما حققته “إسرائيل” في الحروب السابقة على كلّ الجبهات كان العامل الأساسي في نصرها هو انهيار أعدائها مباشرة بعد أيام قليلة من بدء العمليات العسكرية، والتهويل السياسي والإعلامي والدبلوماسي على أنظمة الدول التي شنت عليها الحروب، إضافة إلى عدم وجود مخطّط استراتيجي واضح للدول العربية تجاه التعامل مع “إسرائيل”، فإنه مع انطلاق عمليات طوفان الأقصى، ولأن خلفية محور المقاومة من الناحية الاستراتيجية واضحة الهدف وهي إزالة “إسرائيل” من الوجود، حرك هذا المتغير مفاصل السلوك العملياتي تجاه تحقيق هذا الهدف.
من الواضح أن هناك حاليًّا أولويات ضمن غرفة عمليات محور المقاومة والتي تحدث عنها سماحة السيد نصر الله كأولوية، وهي منع هزيمة غزة وحماس تحديدًا، وهذا أصبح متحققًا بفعل المشهد المرسوم في غزّة، وأصبح الموضوع مرتبطًا بالتوقيت الذي سيجبر فيه الإسرائيلي والأميركي على ابتلاع نتائج طوفان الأقصى، وإعلان النتيجة التي ما زالوا يهربون منها منذ السابع من أوكتوبر.
يحاول الصهاينة تعديل موازين الصراع في جبهة الشمال تحديدًا بالضغط الدولي والدبلوماسي عبر مختلف أصدقائهم وشركائهم عربًا وغربيين، لأن ما يحدث على هذه الجبهة يضرب في أسس الكيان دون قدرة منهم على الرد المتكافىء من ناحية صرف مفعول القوّة النارية الهائلة التي يتعامل بها الإسرائيلي أحياًنا متخطيًا بعض قواعد الاشتباك في حالة الردع المتبادل مع المقاومة. وهذا ما يقابله رد متناسب من المقاومة ولو بطرق مختلفة بما يعني أن المقاومة لا تلتزم بما يحاول الإسرائيلي فرضه بمقياس الجغرافيا ونوعية الهدف والتوقيت.
ما توفّره الجبهة الجنوبية للمقاومة هو ما لا يستطيع الإسرائيلي تقبله ولا يستطيع تجاوزه، وهو أكبر بمفاعيله من ردود “بمقياس المسافة والجغرافيا”.
فأولًا: إن المقاومة تدمر الخط الدفاعي الذي عمل العدوّ على بنائه خلال العقدين الماضيين وبالتحديد منذ ما بعد حرب تموز 2006 ، هذا الخط الدفاعي المجهز بأعقد التموضعات الدفاعية والتجهيزات التكنولوجية، والإطباق الاستخباراتي الممتد إلى عمق المناطق اللبنانية.
ثانيًا: الانتقال بجغرافيا الشمال الفلسطيني وتحويلها إلى منطقة مشلولة من ناحية الاستيطان وتفريغها من المستوطنين. وهذا بالتالي يحولها إلى بقعة صفراء لا يمكن استمرار العيش فيها كما في السابق وهي التي كانت لها مساهمة نوعية في الاقتصاد الإسرائيلي من ناحية السياحة والزراعة وجزء لا بأس به من الصناعة.
ثالثًا: فرض سيطرة نارية على هذه المنطقة تمهد في قابل الأيام لأن تتحول كما تحدث الصهاينة أنفسهم لحزام أمني داخل الشمال الفلسطيني، وهذا ما يعني في علم السياسة تمدد المجال الحيوي اللبناني نحو كامل الجليل ويؤسس لاحقًا لتحريره عند قرار العمل العسكري المباشر ودخول القوات.
رابعًا: ما تقدمه الجبهة الجنوبية هو أعمق ممّا يتخيله أو يطلبه البعض من رد على عمليات الاغتيال أو خرق قواعد الاشتباك، فبينما يطلب الإسرائيلي عبر خرقه قواعد الاشتباك من المقاومة تغيير نسق عمليتها وتحويل التركيز من على جبهته الشمالية كنوع من التوسعة المحدودة بضربات أعمق إلى مناطق مختلفة لتخفيف الضغط الذي تسببه عمليات المقاومة على جبهته الشمالية وعلى خط دفاعه الأول، يدرك حزب الله جيّدًا نقطة الضعف هذه ويستمر بالضغط على الشمال الذي تحول بفعل هذه الضربات إلى خاصرة ضعيفة للكيان. وبالتالي في موازين تحقيق الرد على خرق قواعد الاشتباك فإن تفريغ مستعمرات الشمال من المستوطنين في اللعبة القائمة حاليًّا لهو أهم من اغتيال نتنياهو شخصيًّا أو ضربات صاروخية كبيرة على “تل أبيب” ومحيطها.
هذه التحولات الكبيرة في حالة الكيان الصهيوني ودخوله غرفة الإنعاش الأميركي نستطيع تلخيصها بثلاثة أمور خاصة بالأصول الاستراتيجية والعقائدية.
أولها: تبدّد العامل الأمني والمظلة الأميركية التي كانت تمنع بضغطها السياسي وتهديدها العسكري من أن تهاجم “إسرائيل” من عدة جبهات نتيجة إنهاء حالة العداء بين “إسرائيل” ودولتين أساسيتين من دول الطوق أي مصر والأردن، وتحويل نظاميهما إلى داعمَين بشكل مطلق لـ”إسرائيل” وخاصة من الناحيتين الأمنية والاقتصادية، أو الضغط على باقي الجبهات بالتهديد الأمني والاقتصادي كما حصل مع لبنان وسورية.
ثانيها: صورة الجيش الذي حشد كامل إمكانياته البشرية واللوجستيه في محاولة لوقف الهزات الارتدادية التي يتعرض لها الكيان منذ السابع من أكتوبر.
ثالثها: المستعمرات والمستوطنون الذين هم في الأصل بناة هذه الدولة والمدافعون عنها، وبشكل خاص ما يتعرضون له في الشمال من ضغط عسكري ونفسي واقتصادي يجعلهم يخلون هذه المنطقة مع التفكير بعدم الرجوع إليها.
في النهاية إن من مصلحة نتنياهو الآن وللأسباب الشخصية والعامة للكيان الصهيوني توسعة الحرب وإشعال الجبهة مع لبنان لتتحول إلى حرب من دون سقوف وإدخال الأميركي بشكل مباشر فيها وليس فقط كعمليات جويه إنما نزول الجنود الأميركيين على الأرض، وهذا فقط طوق النجاة الوحيد لـ”إسرائيل” من رمال غزّة، لأنه إذا اندلعت هذه الحرب، وبغضّ النظر عمّا يمكن أن يحدث فيها، وقد تعجل في زوال الاحتلال، فإنه من زاوية الرؤية الخاصه أنه مع اندلاع هذه الحرب ستتحول الأنظار عن غزة ولن يبقى الجيش الصهويني مطالبًا بتحقيق الأهداف في غزة إنما الذهاب إلى مكان آخر والهرب من إعلان هزيمته تحت ستار الحرب الأخطر مع الجبهة الشمالية.