محمد علي – خاص الناشر |
خلف الشّعارات البرّاقة والخطابات المليئة بتوكيد الحرص على القيم الإنسانيّة، وخلف صورة ما يسمّى بـ “العلاقات الدّوليّة”، هناك حقيقة مريرة يخفيها الرّؤساء والسّاسة عن شعوبهم، كما يقفز فوقها أساتذة العلوم السّياسيّة في الجامعات على قاعدة “اسبح مع التيّار.. تصل”. هناك وحش يحاول النّوم بسلام. يختبئ وراء الانتخابات غير الموثوقة ومنظّمات دوليّة لا تحمي أحدًا، يضرب إذا شاء بالقوانين عرض الجدار ويعيدها عند الحاجة وفقًا لمصالحه.
هو وحش الايديولوجيا التي تحكم الحضور السّياسيّ الأميركيّ، وتخيف بفسادها المطلق حلفاء أميركا على صعيد العالَم. الايديولوجيا القائمة على نزعة الاستثنائيّة التي تفوح رائحتها من حين إلى آخر. هو وحش الاستكبار الذي لا تزعجه صرخات المتظاهرين إذا عُدّ بديلًا عن المقاومة والحضور في ساحات الجهاد، ولا يعبأ بما يغرّده المحلّلون بعد أن بات الألغوريتم كالقبّة الحديديّة، ولا تهيبه إطاعة كلّ عمائم الأرض إذا تمّ خذلان الدّاعية منها لإيقاظه من نومه.
هو الوحش الذي اغتصب عقول الملايين فاحتفلوا بالتّحرّر، وتباهى بجبروته الذي وصل إليه بعد الدّوس على ثقافاتهم وتقاليدهم حتّى صاروا هم يباهون به غيرهم، والذي اقتلع قلوبهم وهو يخرج أصحاب المواهب من كلّ دار ليصادرها، فتخلو الأرض وتقع بين يديه، وتصبح المقدّسات تراثًا لا حياة له، ويكون الاستقلال اسمًا دون مسمّى، ويُتّهم من صمد من السّابقين بالعناد والتّهوّر وضيق الأُفق.
هو الوحش الذي يسخر من كلّ قضيّة أعمّ من المصالح الفرديّة حتّى يستفرد بما غفل عنه أبناء الحياة من نِعَمِ الوليّ الحقّ، وراح يطعم من لجأ إليه من لحم أكتاف إخوانهم فقست قلوبهم من حيث لا يشعرون. ثمّ إذا وُلد في كنفه جيل جديد علّم أبناءه الصّنميّة منذ نعومة أظافرهم، وبدأ يصنع من أبنائه عبيدًا منهم من يحمل بندقيّة لنصرته ومنهم من يبني اقتصاده بعرق جبينه، أو يرفع إناثه على قواعد تماثيل تضرب بها الأرض إذا مشت، فيلتفت الباحث عن استثمار إضافيّ في عالم يديره التّسويق.
هكذا يصدّر الوحش استكباره، ويصنع من نزعة الاستثنائيّة ثقافة عامّة، وينشر ذهنيّة التّسامح مع جرائمه بعد تصفية خصومه تارةً من خلال الاغتيال وأُخرى عن طريق التّغييب عن الجبهة الحقيقيّة؛ وقد عرفتَ أنّها جبهة لم تهدأ يومًا منذ ولادة الوحش، ولذا قامت ثلّة قليلة من بين شباب أُمم العالم وشجعانها القاعدين، ليذكّروا من نسي أنّ المقاومة هويّة وليست ظرفًا، ولا ينبغي أن يخلوَ شيء من حركات الإنسان وسكناته من ملاحظة مصالح قوى الشرّ والإعراض عن أدنى ما يحقّقها.
فكانوا هم بالحقّ زبدة البشريّة وحرّاس كرامتها، والرّعد الموقظ للوحش الهاجع. وكانوا هم البأس المحرج لأدواته والمنافقين، والموجب عليهم جميعًا إرسال البارجات والتّعزيزات، لردعه ثمّ شيطنته على الفضائيّات. هؤلاء الشّباب كالدّليل اللُّبِّيِّ الذي لا لسان له، أو كالفاضح للمشهور الذي لا أصل له. هم العارفون بأبديّة الحياة وحبّها، لا مَن يلومهم على كشف استسلامه أمام المضلَّلين، لأنّهم أتقنوا فنّ الرّفض عندما هان القبول.
ويلحق بهم في هذه العظمة بيئة لا مثيل لها على وجه الأرض، تأبى الهروب إلى أحضان من يعدها بالخلاص لا لأنّها تحبّ من يشبهها والطّيور على أشكالها تقع؛ وإنّما لأنّها أبصرت الحقّ وعرفت الباطل على حقيقته، بأُسلوبه الإغرائيّ وتصنّعه الغوغائيّ، فصمدت وصبرت وصابرت محتسبة كلّ بلاء تابع لميثاقها عند الله تبارك وتعالى. وفي ظلّ عجز جُلّ ثوّار الأرض – لا سيّما في الأحداث الأخيرة – عن محاكمة الوحش على جرائمه التي وصلت إلى ذروتها فانكشف زيف المدّعين، يحقّ لأهل هذه البيئة أن تحمد الله على استئثارها بنفسه، وعلى مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.
ليس دين هؤلاء أفيون الشّعوب، ولا هم ضحايا قيادة شعبويّة تسعى وراء الدّنيا وزخارفها كما هو الحال بالنّسبة إلى خصومهم. غاية الأمر أنّهم من سنخٍ آخر نادر جدًّا، معجون بالغيرة والإباء، ما برح من كان منه يطارد كلّ طاغوت يضطهد المظلومين. كرمت على هؤلاء أنفسهم ولم يسعهم الخمول والتّقاعس. فهم لا يبدّلون تبديلًا، مع أنّ فيهم الطّبيب والمهندس، وبينهم الأطفال والنّساء، وباب الهجرة إلى بطن الوحش مفتوح، على أنّ ليس كلّ من أبعدته أمواج الفتن والبلاءات عن ساحات المواجهة “مبدِّلًا”، بل قد يكون من أهل الفنّ فكتمان سرّ الولاء تسبيح، لم يزل سيفه في غمده وباله على المستضعفين لا يستريح.
لن يحاكم الوحش إلّا هذا الشّعب الذي يقدّم في كلّ يوم منذ بداية الأحداث شهيدًا تلو شهيد من المجاهدين والمدنيّين، رغم ما يعانيه من تحدّيات اقتصاديّة ومعيشيّة. وهو ما أثبته مجتمع المقاومة وحزبه الأُمميّ من البوسنة إلى العراق، إلى سورية واليمن، ومن ثمّ في الموقف إلى جانب أهلنا في فلسطين.
فسلامٌ على مجتمع المقاومة في العالمين.