لا نشبههم.. ولا نشبه أميركا!

محمد علي – خاص الناشر |

عند كلّ منعطف أمنيّ أو سياسيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ يمرّ به وطننا، تعلو بعض الأصوات من قِبل من يرون أنفسهم حماة للهويّة اللّبنانيّة “الأصيلة”، المتمثّلة بـ “ثقافة الحياة” وحبّها،[1] يتلوها صدى الاسلاموفوبيا المقيتة التي تتجلّى في خطاب بعض السّياسيّين وتفاعل الكثير من “شركاء الوطن” على مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

هي ظاهرة لافتة برزت من بين طيّات الواقع المستقطب الذي دفعهم الغرب للاعتزاز به حتى وصل ببعضهم الأمر إلى المطالبة بالفيديراليّة، كما هو المتوقّع من أُناس إذا رأوا شخصاً يرتدي ملابس مختلفة أو يصلّي خمس مرّات في اليوم الواحد، أو لا يشرب الخمر – حتى ولو كان ذلك لأسباب صحِّيَّة –[2] اعتبروها شواهد على “تأسلمه” أو أدلّة كافية للحكم عليه بأنّه “لا يشبههم” وغير قابل للعيش المشترك..

لكنّ المشكلة الحقيقيّة على المستوى السّياسيّ والاقتصاديّ، والتي لها جذورها الايديولوجيّة بطبيعة الحال، هي أنّ مجتمع المقاومة يرفض الخضوع للهيمنة الأمريكيّة؛ الأمر الذي يجعل الأُمور أكثر إثارة للسّخرية باعتبار أنّ الخطاب السّياسيّ الأمريكيّ قائم على التّفاخر بالتّنوّع وقبول الآخر.

في الوقت نفسه، هو أمر مأساويّ لأنّ من مدّعي الثّقافة والتّنوّر من ما زال مقتنعاً بأنّ المشروع الأمريكيّ في لبنان يضمن شيئاً من مصالح وطننا، بدلاً من تكليف نفسه ببعض النّظر في التّاريخ الأمريكيّ والبنية الايديولوجيّة التي قامت الولايات المتّحدة على أساسها. إلّا أنّنا نتصوّر من باب حسن الظنّ أنّهم لو كانوا أكثر اطّلاعاً على ذلك لما كانوا يتردّدون في أنّ الإعلان عن أن مفهوم “الوطن” والمشروع الأمريكيّ العالميّ لا يجتمعان أساساً..

والحال أنّ قضيّة فلسطين خير دليل على ذلك بعد كون دول المنطقة التي التزمت الصّمت منذ بداية الأحداث الأخيرة ولا تزال متقاعسة عن اتّخاذ أيّ موقف داعم للشّعب الفلسطينيّ في ظلّ هذه الإبادة الجماعيّة غير المسبوقة التي يشهدها العالم، ليس لديها أيّ عذر سوى عدم الاستعداد لمواجهة الضّغوطات الأمريكيّة..

نعم، هذه هي حقيقة النّفوذ السّياسيّ للقوى الغربيّة: ضحايا وشهداء، وأضرار وكوارث، يعنونها السّواد الأعظم تجنّباً للواقع المجنون بأنّها عاقبة “مؤسفة” لكونهم “لا يشبهوننا”. هكذا يتّضح أنّ العالَم “المتحضّر” الذي يرغب بعض أخواننا اللّبنانيّين في تصدير ثقافته وتبنّي سياساته يعتبر كلّ من لا يشبهه مستحقًّا للإبادة وجرائم الحرب.

على اللّبنانيّين الواعين ألّا يقتصروا على قشور الادّعاءات، وأن يتخطّوا شعارات من يريد أن يقنعهم بأنّهم حرّاس الحدود وأبطال سيادة لبنان، فيتّخذوا نهجاً مختلفاً تجاه الواقع السّياسيّ المحلّيّ والإقليميّ، وإلّا فمن الغبن ترديد تصريحات وتحليلات أبواق الفتنة عندما تكون الوقائع متوفّرة إلى هذا الحدّ.

يجب أن يعرفوا أنّه بات من البديهيّ لدى الشّعب الأمريكيّ نفسه أنّ أيّ إدارة رئاسيّة أمريكيّة لا بدّ أن تخضع في قراراتها المصيريّة للّوبي الصّهيونيّ، وأنّ الولايات المتّحدة لا تعتبر نفسها وطناً كما الأوطان الأُخرى، بل هي لا تعترف بسائر الدّول أصلاً، وإنّما قامت الولايات المتّحدة على أنّها امبراطوريّة عالميّة وغيرها من البلدان عبارة عن زوايا يجب استثمارها.

هكذا عبّر الرّئيس الأمريكيّ وودرو ويلسون الذي قال في محاضرة له في جامعة كولومبيا عام 1907: “نظراً لأنّ التّجارة تتجاهل الحدود الوطنيّة ويصرّ المصنّع على جعل العالَم سوقاً، يجب أن يتبعه علم وطنه، وأبواب الدّول المغلقة ضدّ المصنّع يجب أن تفتح عنوة. كما يجب ضمان التّنازلات التي يحصل عليها المموّلون من قبل وزراء الدّول، حتى لو أدّى ذلك إلى هتك سيادة الدّول غير الرّاضية. ويجب الحصول على المستعمرات أو إنشاؤها، حتى لا يتمّ التّغاضي عن أيّ زاوية مفيدة في العالَم أو تركها من دون استخدام..”[3]

وفي حين أنّ هذا الأمر موثّق منذ عدّة قرون، وهو واضح لكلّ من يراقب عن كثب السّياسة الاقتصاديّة المحلّيّة الانتحاريّة لأميركا، عادةً ما يتمّ تجاهله من قبل البسطاء والمتعصّبين في لبنان، الذين يعدّون كلّ نمط لا يروق لهم تطرّفاً إسلاميًّا أو نظريّات مؤامرة يساريّة، وهو أُسلوب السُّذَّج الذي يعينهم على البقاء في الفقاعة التي يحتاجون إليها لتسلية أنفسهم..

علماً أنّ أمثال هذه التّقسيمات ليست سوى أدبيّات غرضها تصنيف العوامّ بشكل يخدم مصلحة الحكّام الحقيقيّين المعتكفين على جبل الأوليجارشيّة، والاعتقاد بصوابيّة توصيفها لواقع المجتمع والفكر السّياسيّ فرع الإقرار بحاكميّتهم على معالم الرّؤى والايديولوجيّات، وهيمنتهم على اللّغة وحدودها..

كما وكانت الإدارات الأمريكيّة قد أكّدت في اجتماعاتها أنّه “ينبغي للولايات المتّحدة أن تملك قوّة غير قابلة للمُساءلة”، وأن “تحدّ من سيادة أيّ وطن يتدخّل في تصاميمها الكونيّة”،[4] وغير ذلك ممّا يستبطنه الخطاب العلنيّ للسّياسيّين الأمريكيّين من مؤامرات باتت مكشوفة أمام الرّأي العام..

فهل ينبغي الوقوع في شبهة احتمال سماح دول الاستكبار لنفسها بالخروج عن لحن القمع والاستبداد والسّرقة ورعاية الفساد الثّقافيّ والسّياسيّ من أجل بلادنا وشعوبنا – كأنّنا مستثنَون من طغيانهم وغطرستهم – وإيكال أمننا وأعراضنا إليهم بناءً على  تلك الفرضيّات السّخيفة والذّليلة؟ فإذا كان البعض يصرّ على ذلك ويعدّه رهاناً عاقلاً فهو شأنه وعليه وزره، وليس رأيه بحجّة على أحد غيره في عصر المعلومات الذي نعيشه..


[1] كانت قوى 14 آذار قد اعتمدت شعار “نحن نحبّ الحياة” بعد اغتيال الرّئيس رفيق الحريري. كتبت حياة الحريري في جريدة “الأخبار” عام 2016 أنّ هذا الشّعار “تمّ تسويقه بطريقة صوّرت فيها المقاومة على أنّها مرتبطة بالموت والدّمار بعدما كانت في الوجدان اللّبنانيّ طالبة للحرّيّة، لأجل الحياة”..

[2] هو ما حصل مع مدرّب كرة السلّة المرموق غسان سركيس كما ذكر في مقابلة له بتاريخ 9 شباط 2024 على منصّة “هنا لبنان”..

[3] راجع كتاب دايفد هارفي بعنوان: “A Companion to Marx’s Capital”، ص100

[4] انظر: محاضرة نوم تشومسكي في جامعة بوستون عام 2008 بعنوان: “Modern-Day American Imperialism: Middle East and Beyond”

اساسي