لم يترك الكيان الصهيوني خيارًا لتنفيذ إبادته الجماعية بحق الشعب الفلسطيني إلا وخاضه عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. خياراتٌ أتت جميعها بصيغة الإجرام وبمباركةٍ ومشاركةٍ مباشرة وغير مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية ومعها عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي.
الحصار الذي تمارسه هذه الدول ضمن إطار ديمقراطي مزيف، وصل مؤخرًا لحد اتخاذ قرارٍ مأساوي جديد بحق الشعب الفلسطيني، يقضي بإيقاف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ابتداءً من نهاية شهر شباط/فبراير، والتي تعتبر شريان حياةٍ لما يقارب الخمسة ملايين ونصف مليون فلسطيني يتوزعون بين فلسطين ولبنان وسورية والأردن، تحت ذريعة أن 12 موظفًا فيها شاركوا في عملية طوفان الأقصى وفق المزاعم الإسرائيلية.
قرار بصيغة جماعية
قرار وقف التمويل هذا اتخذته أولًا كلّ من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا، وانضمت إليها مؤخرًا كلّ من رومانيا، والنمسا، واليابان. وعلى الرغم مما طالبت به هذه الدول من إجراء تحقيق في المزاعم الإسرائيلية، فإنها اتّخذت موقفها قبل البدء بهذه التحقيقات، وتبيان النتائج للتحقق من صحة المزاعم المذكورة. وفي هذا السياق دعت دول أوروبية أخرى لإجراء تحقيقات بهذا الشأن لكنّها لم تعلن وقفها لدعم الأونروا.
الجدير بالذكر أن قرار وقف التمويل جاء بعد صدور حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي رفضت مطالب “إسرائيل” بإسقاط دعوى “الإبادة الجماعية” في قطاع غزّة التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا، وحكمت مؤقتًا بإلزامها “بتدابير لوقف الإبادة وإدخال المساعدات الإنسانية”. واعتمدت المحكمة في اتّخاذ موقفها على تقارير الأونروا.
“إسرائيل” أيّدت بكلّ أطيافها هذا القرار الظالم، فالحكومة والمعارضة على حد سواء يتفقان على ضرورة منع ووقف كلّ الأنشطة المتعلقة بالوكالة، وأن لا يكون لها أي دور في المرحلة التي ستلي الحرب على غزّة. وفي سياق متصل دعا وزير الخارجية في كيان العدوّ “يسرائيل كاتس” مفوض وكالة الأونروا فيليب لازاريني إلى “أن يستخلص الدروس مما حدث ويستقيل”.
معارضة “إسرائيل” لنشاطات الأونروا والمطالبة بإيقافها لم تكن حديثة العهد، ففي عام 2017 سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى حل الأونروا ودمجها مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وفي السياق نفسه كانت الولايات المتحدة الأميركية عام 2018 وتحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد أوقفت تمويلها للوكالة بناءً على طلب إسرائيل حينها، لكن الرئيس الحالي جو بايدن تراجع عن قرار سلفه وأعاد تمويلها.
تداعيات كارثية
تأسست الأونروا من قبل الأمم المتحدة بعد عام من الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948. وهي تقدم مجموعة واسعة من المساعدات والخدمات للاجئين الفلسطينيين وأحفادهم. كما أنها مصدر رئيسي لتوظيف اللاجئين، الذين يشكلون معظم موظفيها البالغ عددهم أكثر من 30 ألف موظف في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولديها مكاتب تمثيلية في نيويورك وجنيف وبروكسل. ويتمركز أكثر من 10 آلاف من موظفيها في قطاع غزّة.
عام 2023، بلغت ميزانية الوكالة ما يقارب الـ 1.6 مليار دولار. ومنذ بدء الحرب على غزّة طالبت الأونروا بالحصول على مبلغ 481 مليون دولار كتمويل إضافي لتغطية الحاجات الإنسانية الحرجة، بحكم أنها منظمة المساعدات الإنسانية الأولى في قطاع غزّة وتغطي حاجات نحو مليون فلسطيني في القطاع، ومع وقف التمويل وفي ظل الظروف الإنسانية الكارثية وانهيار كافة القطاعات الصحية والخدماتية، فإن ذلك يعني الموت المحتم للكثير من سكان القطاع.
تداعيات القرار لا تقتصر حاليًّا على سكان قطاع غزّة، بل إن الأمر سيطال الملايين من اللاجئين الفلسطينيين في بلاد الانتشار، حيث يعتمد هؤلاء بشكل أساسي على المساعدات التي تقدمها الأونروا والتي شملت الغذاء والرعاية الصحية وحتّى التعليم والدعم النفسي على امتداد عقود.
إذًا، تزيد “إسرائيل” اليوم ومعها الدول الداعمة لها، جريمةً جديدة على سجل جرائمها الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني، ورغم الدعوات الموجهة لهذه الدول بدحض المزاعم الإسرائيلية واستئناف تمويلها للوكالة، إلا أن قرارها السياسي يبقى مرتبطًا وقبل كلّ شيء، بمصالح أميركا ومصالح شريكتها “إسرائيل” في الشرق الأوسط والمنطقة ككل.