حين قررت الحركة الصهيونية القيام بمساعيها لدى الحكومة البريطانية لإصدار قرار – وعد بإنشاء دولة صهيونية على أرض فلسطين تحت شعارات واهية وكاذبة ومختلقة ومنها “أرض الميعاد”، كانت تضع في صلب خططها الاستيطانية والتوسعية السيطرة على مساحاتٍ واسعة من أراضي الفلسطينيين وتاليًا من الدول العربية المحيطة. وكثُرت في ذلك الحين شعاراتها ومقولاتها ومنها أيضًا “في المكان الذي يحرث فيه المحراث اليهودي التلم الأخير، هناك تمر حدودنا”. وكانت هذه المقولة واحدة من أسس تشكّل كيان المستوطنات وثقافة الاستيطان وحدودها الجغرافية.
كان للحركة الصهيونية هدفان أساسيان، وهما: السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض والاستيطان فيها، وإيجاد نوع من الارتباط الوثيق بين تلك الأرض وذاك المستوطن القادم من وراء البحار، فالعمل بالزراعة يخلق هذا النوع من الارتباط بالأرض ويجعل العلاقة أكثر إلفة بينها وبين العامل فيها ولا يبقى غريبًا عنها ويتوسّع الاستيطان فيها نحو مزيد من الاستحواذ على أراضٍ ومساحات شاسعة تخدم الهدف الأساسي للاستيطان لا يحققه الاستيطان في المدن والأماكن المدينية. من هنا نرى حجم الخوف والرعب في عيون وكلام وسلوك قادة الكيان والمسؤولين عن المستوطنات في الشمال والمستوطنين أنفسهم، ذاك الشمال الذي أصل بنيته الاجتماعية والحياتية والاقتصادية مبنيّ على فكرة العمل والانتاج الزراعي والصناعي لاحقًا كما مستوطنات الجنوب وغلاف غزّة والتي خلقت هذا النوع من الارتباط بالأرض على مدار سنوات طويلة من الاحتلال والاستيطان.
حين حصلت عملية “طوفان الأقصى” ودخول جبهة لبنان في إطار المساندة والمناصرة والدعم لجبهة غزّة وأهلها ومقاوميها وكثُرَ الحديث عن وجود “قوة الرضوان” على خط الجبهة في الجنوب، وكانت المعركة هناك واضحة منذ بدايتها أنها لمشاغلة العدوّ على الجبهة الشمالية وأن ليس لدى المقاومة ووفق المعلن على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأول بعد بدء عملية طوفان الأقصى أن لا نوايا هجومية لاختراق الجدار القائم والتحصينات على الحافة الأمامية، لذا -وبرأيي الشخصي المتواضع وقد لا يوافقني البعض – أقول إن “قوّة الرضوان” لم تكن موجودة في أي وقت من الأوقات على الحافة الأمامية للجبهة، وإن اعتداءات العدوّ وطبيعتها تؤكّد أن من غير المعقول أو المنطقي حشد قواتٍ من المشاة في منطقة الاشتباك عند شريط ضيق من الحدود الفلسطينية ونحو العمق اللبناني بما لا يتجاوز الكيلومتر الواحد. هؤلاء المشاة الذين هم أصل تكوين “قوة الرضوان” وتشكيلاتها والتي تقدّر ببضعة آلاف من المقاتلين المدرّبين والمجرّبين والمجهّزين بالسلاح والعتاد اللازمين ويشكلون أقل من عشرة بالمئة من عديد مقاتلي المقاومة الإسلاميّة في لبنان والذين يقدّرون بمائة ألف مقاتل ويزيدون، ووجود هذه القوّة في تلك البقعة يخالف أبسط قواعد العمل العسكري مع عدم وجود نوايا هجومية معلنة وصريحة. وللعلم أيضًا فإنَّ عملية “طوفان الأقصى” قد أسقطت إلى حدٍّ ما عنصر المفاجأة والمبادرة لعمليات شبيهة ممكنة في حال وجدت نيَّة لذلك، وإنّ من يتخّذ هكذا قرار بزجِّ هذه القوات في تلك البقعة الضيقة يضع تلك القوّة تحت مطرقة العدوّ ليفتك بها كيفما شاء. ومن موقع الواثق المطمئن أقول إنَّ قيادة المقاومة وتاليًا قيادة القوّة المذكورة هم الأكثر حرصًا على أرواح المجاهدين وأذكى من الوقوع في خطأٍ فادِحٍ كهذا، وخاصة أنَّ العدوّ ومنذ بداية أيام العدوان وحتّى اليوم قام ويقوم بإحراق الأودية والمرتفعات بقذائف الفوسفور وصواريخ الطائرات ذات القدرات التدميرية العالية في محاكاةٍ وترجمة للوهم والخوف من وجود “قوة الرضوان” هناك والرعب الناتج عن فكرة أنَّ مقاتليها هم خلف الجدار الفاصل أو في الأودية والأحراش القريبة ويتحينون الفرصة للانقضاض والعبور نحو الجليل.
من هنا نرى أن العدوّ يعيش هاجس هذه القوّة ورعبها الذي يسير أمامها، تلك القوّة التي أُعدّت إعدادًا غير مسبوق على المستوى العقائدي والنفسي والبدني والتدريب العسكري العالي المستوى لتكون رأس حربة المقاومة في مواجهة أي عدوان من أيِّ كان، أميركي أو إسرائيلي أو تكفيري أو غيرهم ممن يعيشون أضغاث أحلام ماضيهم العفن كمجرمي حرب في لبنان والذين طواهم النسيان وعفّى عليهم الزمن، هذه القوّة وغيرها من تشكيلات المقاومة الإسلاميّة والتي دعاها سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه في السادس عشر من شباط العام 2011 وفي الذكرى السنوية للقادة الشهداء، السيد عباس الموسوي، والشيخ راغب حرب، والحاج عماد مغنية (رضوان الله عليهم) حين أكَّد على “ضرورة الاستعداد ليوم إذا فرضت فيه الحرب على لبنان، بأنَّ قيادة المقاومة قد تطلب منهم السيطرة على الجليل” وليكونوا متأهبين في سياق التحضير لمعركة التحرير الكبرى والتي لم تنضج ظروفها ولا مقدِّماتها بعد حتّى الآن.
ومنذ تاريخ هذا الموقف – القرار من سماحته يعيش العدوّ يوميًا وهم القوّة وأشباحها على الحدود الجنوبية ومقابل مواقعه وتحصيناته وتتهيّأ له صورٌ وأحداثٌ من نسج خيال جنوده المرعوبين، كما وجعلت أيضًا الصديق والمحبّ والمؤيِّد والمناصر للمقاومة في عالمٍ افتراضيٍّ موازٍ يحاكي فيه وبعنفوان الانتصارات القادمة على أيدي مجاهدي هذه القوّة، وكلّ ما كتب عنها أو حيك من قصص وروايات بقيت في إطار الإعلام الإسرائيلي أو المتماهي معه مع موجة عارمة ضربت منصات التواصل الاجتماعي على خلفية مشاهد وصور لمناورات وتدريبات جرت لتشكيلات عسكرية قتالية في المقاومة الإسلاميّة أعطيت لها أبعاد وعناوين وأهداف لم تعلن بالأصل عنها المقاومة وقيادتها ولم تتبنَّها، والتي بقيت دائمًا في إطار الـــ “قد” والــ “يمكن” والـــ”يحتمل” دون جزمٍ في الموضوع، لدرجة أن العدوّ الإسرائيلي لكثرة قلقه لم يخلُ بيان أو تقرير عسكري أو استخباري ولا مقالة صحفية أو نشرة خبرية أو حلقات حوار تلفزيونية كانت أو إذاعية إلا وتحدَّث عن وجود هذه القوّة على محاور الاشتباك ومهارة مقاتليها حتّى باتت تشكل هاجسًا وخوفًا غير مسبوقين لدى الكيان برمّته وجعلت العدوّ يعيش أوهام هجومها المرتقب على الجليل الأعلى كلّ دقيقة وساعة من ساعات الحرب الدائرة على الجبهة الأمامية في جنوب لبنان.
وتحولت هذه القوّة إلى “بعبعٍ” يخافه الجنود والضباط والمستوطنون الصهاينة على حدٍّ سواء – (وللحقيقة هم محِقّون بهذا الخوف – مما أحال المستوطنات مدن أشباحٍ تصفرُ فيها الرياح وتولول بسبب الرعب القادم من الشمال بصواريخ المقاومة التي تدكّها صبح مساء وتدمر فيها البيوت والمنشآت والقواعد العسكرية وتجمعات الجنود والآليات. هذا الوهم الذي أحاط بعقول قادة العدوّ حول وجود “الرضوان” على الجبهة – بمعزلٍ عن النِّقاش حول صحّة تحشُّدِها هناك من عدمه – والذي اخترعته عقولهم الواهمة، كان قد ألقى بظلاله وتأثيراته على مجمل خططه وبرامجه وتحضيراته على جبهة قطاع غزّة ودفعته لحشد عدد من فرقه القتالية النظامية وكتائبه الخاصّة وألوية مدرعاته ومنظوماته الدفاعية وطائراته الحربية والاستطلاعية التجسسية وبوارجه البحرية مقابل الجبهة مع جنوب لبنان، هذا الجيش الصهيوني الذي لم يخف يومًا من جحافل الجيوش العربية الجرَّارة أرعبته قوة صغيرة من المقاومين وتسببت قبل البدء بالحرب بهزيمة نفسية ومعنوية لفرقه وألويته وكتائبه ولقيادته الغبية والواهمة والمشبعة بوهم القوّة والسطوة والقدرة على القتل الجماعي والتدمير لبيوت الناس الآمنين، وأسقطت هيبته وأحدثت تآكلًا في قدرته على الردع وفقدان الثقة بين الجنود وضباطهم وبالتالي جنرالاتهم وقياداتهم السياسية ناهيك عن المصداقية تجاه “المجتمع الإسرائيلي” وثقته وشعوره بالأمن والأمان الذي لا يمكن أن يوفره له جيش مهزوم ومتعب.
في أحد الأيام وتحديدًا في ذكرى الشهداء القادة وبعد مرور ما يقارب الأسبوع على استشهاد الحاج عماد مغنية في الثاني والعشرين من شباط العام 2008م، قال السيد نصر الله: “في أيَّة حربٍ جديدة سنقاتلكم في الميدان وفي البرِّ قتالًا لم تشهدوه طوال تاريخكم وسيدمَّر جيشكم في الجنوب ودباباتكم أيضًا، بقيَّة هيبتكم وبقية ردعكم ستدمَّر هناك وتبقى “إسرائيل” بلا جيش وعندما تصبح “إسرائيل” بلا جيش فلا تبقى.”.
بالوهم والخوف “إسرائيل” سقطت، حتمًا سقطت.