سارة خريباني – خاص الناشر |
في البدء كانت الكلمة، وكانت معها تِبعًا جوارح الإنسان، المخلوق الأكثر جدلًا بين مخلوقات الله تعالى، مسخّرةً لها، تحملها من الجدران إلى الأوراق فالصور والرسوم حتّى اقمار الفضاء.
وبأصل الرواية، تدثّرت حقائق التاريخ والتفّت الحضارات العريقة، لتكون بقية ما خلّف الأسلاف للبشريّة، عساها تعتبر من ماضٍ تناثر لبّه بين صراعات الخير والشّرّ.
حمل وِلد آدم (ع) وزر الكلمة، فكانت الحد الفاصل بين الواقع والوهم، بين حق ثار ليحمي قيمة الإنسان، وباطل يسعى لاندثارها. فكيف بدأت حرب الروايات؟ وهل استطاعت البشرية الحفاظ على خلاصة الحضارات التاريخية، خصوصًا تحت تأثير الاعلام المعاصر؟ أم هل استطاع الإعلام تحقيق دوره في إيصال حقيقة ما يحدث في البلاد الراضخة تحت وطأة الصراعات؟ أسئلة نطرحها على الكاتب والباحث في الدراسات الدولية والتاريخ العسكري الأستاذ محمد جواد مهدي زاده.
1 – من أين بدأت حرب الروايات عبر التاريخ؟
تبدأ حكاية هذا الصّراع من المواجهة الأولى بين الخير والشّرّ عبر الزّمن، ولكي نلمس حقيقتها، وجب تتبّع آثارها التي برزت منذ استكبر الشّيطان على الله تعالى، لننطلق بعدها في تتبّع الحضارات التّاريخيّة القديمة وآثارها المختلفة، كالصّراع القديم بين الشّرق والغرب، والذي تجسّد الحضارتان الفارسيّة واليونانيّة جزءًا منه، حيث نلاحظ استخدام الكلمات المسيئة في بعض أجزاء الأدب اليونانيّ موجّهةً للفرس، وهذا كان من الأساليب التي استخدمتها الحضارات القديمة المختلفة عبر رواياتها في نقل صورة الخصم المنافس، والأمر أكثر بروزًا لدى اليونانيّين الذين عرفوا مشاركتهم في الفنون المتنوّعة التي أُنشئت بذورها من حضارتهم مثل المسرح والأدب والكلام وصناعة القصّة والرّواية.
2 – هل استطاعت البشريّة الحفاظ على تسلسل الحضارات التّاريخيّة؟
لقد استطاعت البشريّة، رغم التغيّرات التي شهدتها عبر الزّمن واحتدام الحروب والأزمات المختلفة، الحفاظ على جزءٍ وفيرٍ من المعالم الأثريّة والمخطوطات والمفاهيم إضافةً إلى معلوماتٍ غزيرة ورثتها عن الحضارات القديمة، كما لقي جزءٌ آخر حتفه بالاندثار، وذلك إثر هجماتٍ ذات أهدافٍ ومصالح سياسيّة ومنافع جغرافيّة وثقافيّة وفكريّة وغيرها من أهداف الخصومة النّدّيّة بين بعض الشّعوب في الفترات والأزمان.
3 – كيف يتسبّب محو الرّوايات التّاريخيّة في فشل استمرار حضارة ما ودحض قوّتها؟
من المعروف أنّ التّاريخ يشتمل على أبعاد مختلفة من هويّة أيّ شعب، منها العناصر الثّقافيّة والاعلاميّة، وحتّى الإنجازات العلميّة المتنوّعة، وهي بمجملها تشكّل عناصر المادّة الرّوائيّة للتّاريخ، فإذا ما تمّ ضرب هذه الرّواية أو تشويهها فإنّ ذلك يؤدّي إلى استحالة هويّة شعب بأكمله.
تعتمد الحضارات “المنتصرة”، أو التي تحاول تحقيق انتصار، محو الأثر ضدّ الحضارة “المهزومة” أو المهاجَمة، كأسلوب هجوميّ حربيّ لتغيير ملامحها التّاريخيّة، الأمر الذي شهدناه إبّان هجمات “داعش” الإرهابيّة في سورية، والتي شنّت ضرباتٍ على المعالم الأثريّة العريقة، الإسلاميّّة منها كما المسيحيّة، وهذا نمط اعتمد عبر التّاريخ، فأيّ هجوم يستهدف تاريخ شعبٍ ما مهما كانت أسبابه السّياسيّة والعسكريّة، يؤدّي إلى استحالة استرجاع ما أتلف إن كان على صعيد المعالم المادّيّة أو القوّة الظّاهريّة والمعنويّة، ولهذا فإن تغيير التاريخ والرواية نتيجته محو حضارة أو جزءٍ من معالمها.
4 – كم احتاج التاريخ لدور الإعلام عبر الزّمن؟ وكيف تغيرت قدرات الإعلام ودوره هذا علميا وعمليا؟
لقد كان الإعلام السلاح الصارم والأقوى لأي حضارة فهو أصل قدرتها على نشر أفكارها وأعمالها وتراثها، وذلك من صور القوّة، حتّى أنّ الله تعالى أرسل الأنبياء إعلامًا بدينه، وخصّ الأنبياء أولي العزم، وتحديدا رسوله محمد صلى الله عليه وآله بمعجزة القرآن، الذي هو كتاب منزل دوره إعلام الأمم بدين الإسلام وبنوده. حيث إنّ الاعجاز اختلف بين نبيّ وآخر، إلا أنّ معجزة النّبي محمد (ص) كانت الكلمة، حيث أرسل الله تعالى معه القرآن الكريم لتتعرّف الإنسانيّة إلى وجهٍ فريد من التّطوّر الإنساني، فكانت “الكلمة” التي تحمل في مجملها نوع الرواية، وبالتالي إعلام الأمم.
إنّ القرآن الكريم زاخر بالقصص والروايات التي تنقل أحوال الأمم السابقة وسيَرها والعبر من حضاراتها التاريخية وأحداث العالم الإسلاميّّ وغيره من الأحداث السالفة. ولا يخفى على أحد ما قاله تعالى في سورة يوسف: “نحن نقص عليك أحسن القصص”، وبذلك نرى الميزة الأهمّ التي حملتها معجزة القرآن الكريم حيث إن “أحسن القصص” تمثلت بدور الإعلام الذي أولاه الله تعالى أهمية كبرى وسلّمها لآخر أنبيائه المرسلين محمد (ص) ليكون جزءًا من أدوات بل دروع الصراع القائم الأزلي بين الخير والشر عبر الزمن.
5 – ما هو دور التاريخ في التأثير على بناء الرأي العام وفكره وتطلعاته؟
إنّ أول الأساليب في معرفة التاريخ القديم هي تناقله عبر الاجيال المتلاحقة، فالمعرفة الأعمّ له تبدأ عبر الاجيال والدراساتِ والمعلومات العامة الموجودة، لذلك نستطيع القول إن للتاريخ قدرة الترسّخ في نفوس البشر وبالتالي أثره جليّ على الرأي العام وأفكاره وتطلعاته، فهو بتواتره من جيل إلى جيل وتوفّره عبر مساحة طويلة من الزّمن بشكل متّسق يتوسّع أمده بين الأقاليم والبلدان والأقوام وبذلك يأخذ دوره الأهم الذي هو صناعة الفكر والتراث الإنساني.
كل ما تملكه البشرية اليوم يحمل رواية تاريخية، حتّى البعد الجغرافي للمناطق، كلّ شيء حولنا له علاقة بالتاريخ، وذلك يؤكد قول الإمام الخميني (قده): ” التاريخ معلم البشر”.
6 – كيف للتاريخ القدرة على تغيير روايات الشعوب وتبديل وجهات النظر اتجاه شعوب أخرى؟ (نماذج)
النماذج التاريخية في قدرة التاريخ على تغيير روايات الشعوب كثيرة جدا، أما أنا فلا أعتبرها قدرة التاريخ نفسه بقدر ما هي أسلوب وقوة الفئة الناجحة المنتصرة أو الساعية نحو الانتصار، باستخدام الروايات التاريخية كأداة للأغراض السياسية والجيو – استراتيجية وغيرها.
فمنذ زمن اليونانيين القدماء وإلى يومنا هذا، تستخدم القوى الاستعمارية الغربية الحروب والهجوم والتخريب أسلوبا في توسيع رقعتها الاستعمارية تحت مسمّيات ثقافية، إذ إنه من المضحك اعتبارهم تحقيق نجاح في التوسع الثقافي والحضاري عبر أسلوبهم الحربي من قتل ودمار وتنكيل، وذلك نفس النمط الاجرامي المعتمد من العدوّ الاسرائيلي.
“إسرائيل” هي الطفل غير الشرعي للغرب، ونحن نرى انها تعتمد نفس الاسلوب في تشويه الرواية، وقد برز ذلك خلال الحروب العالمية، فبعد الحرب العالمية الأولى عمّموا صورة ألمانيا الاجرامية وألقوا باللوم عليها باعتبارها السبب الأساس للدمار، على الرغم من وضوح دور دول أخرى في تلك الحرب مثل روسيا والنمسا وغيرهما. أما في الحرب العالمية الثانية، فقد توسعت الحرب الاعلامية بشكل أكبر حيث بدأ الحلفاء بإبراز الوجه الشيطاني لأدولف هتلر وألمانيا ودول المحور ليصبح كلّ من اصطف في محورهم بالنسبة للحلفاء شيطانا، وقد اعتمدوا مختلف الادوات الثقافية والفنية في ترسيخ فكرتهم لدى الشعب، فلم توفر هوليوود شيئا من انتاجها في هذا المجال، إضافة إلى القصص والكتب ووسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية المختلفة التي روجت لنفس الصورة. فمنذ 1945، نهاية الحرب العالمية الثانية وحتّى هذا اليوم، لا تزال ترَوّج فكرة الحلفاء، ان هذه الحرب كانت قائمة بين الخير والشر، مع رسم هالة الخير لقوات الحلفاء التي تمثلت بالأميركـيين وبريطانيا روسيا وغيرهم من الدول المتحالفة مع أميركا، ضدّ ألمانيا وايطاليا واليابان وكرواتيا وسلوفاكيا والدول المتحالفة مع الألمان. ثمّ اعتمدوا نفس أسلوب الرواية ضدّ المسلمين وتاريخ الإسلام الحديث، فبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، عمدوا إلى شيطنة الشعب الإيراني وسعوا إلى تشويه حقيقة شخصية الامام الخميني (قده)، وكذلك الأمر مع المقاومة الإسلاميّة في لبنان وحركات المقاومة في فلسطين، وأيضا ضدّ المقاومة الإسلاميّّة في العراق في حربها ضدّ الإرهاب والاحتلال الذي امتد إلى أراضيها بعد اندلاع الحرب في سورية.
كذلك فقد سعت أميركـا بعد حرب تموز في عرض اعلامي عبر قنواتها للترويج لفكرة التحالف بين حزب الله والقاعدة، كما سعى الإعلام السعودي إلى الربط بين صورة حزب الله وداعش واعتبارهما وجهين لعملة واحدة، ومع اختلاف هذه النماذج نستنتج قدرة الاعلام على صناعة وجهة النظر لدى مختلف الشعوب.
7 – كيف يستطيع اعلامنا المعاصر التأثير على الرأي العام وقدرتِه العملية في تغيير وجه الحروب والأزمات؟
بدأ تطوّر الإعلام وأدواته من الإعلام المكتوب إلى المطبوع عبر الصحف والكتب مثلا ثمّ المسموع كالإذاعة ثمّ الإعلام التصويري لنصل بعدها إلى مستوى الأقمار الصناعية ثمّ عصر الانترنت حيث تطوّر تدريجيا إلى أن دخلنا مرحلة التواصل الاجتماعي ومواقعه المختلفة. أما الطفرة الأكثر تطوّرا في زماننا فهي الذكاء الافتراضي artificial intelligence.
إن كلّ هذه التطورات تستدعي منا اتخاذ بعض الخطوات المتسلسلة لمواكبة التغيير وتحقيق الإنجازات الموازية للغرب.
أولى خطوات التغيير تبدأ بالعمل على التفكير عالميا، أي توسيع رقعة الفئات المستهدفة من المستوى الاقليمي والمحلي إلى المستوى العالمي، فلقد تطوّرت جميع اقطار الحروب والدراسات وغيرها من الميازين المؤثرة لتصيب الأقطاب العالمية وبالتالي وجب علينا البدء بالتخطيط والتفكير والتنفيذ على مستوى عالمي. فإننا إن لم نمتلك القوّة لاستقطاب الرأي العام العالمي، خاصة في ما نراه من أحقية للقضية الفلسطينية، ولم نستطع تغيير وجهة نظر الشعوب الغربية في الأحداث الحاصلة في منطقتنا، فإن قدرة اعلامنا على التأثير في شعوبنا ومنطقتنا لن تكون ذات صلابة، لذلك أرى أننا يجب التوجّه عالميا.
أما مسألة رفع مستوى الأثر وتعميقه فيبدأ بمتابعة التطور لاستغلال التقنيات المتاحة على اكمل وجه، حيث يمكننا الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي التي اصبحت جزءا من هذا التطور لتكون ساحة حربنا باعتبارها بمعظمها غربية الا أننا نتواجد فيها لهدف أساس وهو مواجهة الحقيقة الغربية بالحقيقة الإنسانية لدينا.
إذا فإن توسيع أفق الأهداف، ومواكبة التطور، إضافة إلى رفع مستوى الجهوزية على جميع المستويات باعتبار ساحة الإعلام ساحة مواجهة وحرب، هي الوسائل الأكثر فعالية في تحقيق الأثر الأعمق في الرأي العام المحلي والعالمي. إذ إننا في حرب حضارات، وذلك باعتبار آراء المفكرين المختلفة خصوصا الغربيين منهم، مثل سامويل هانتينغتون وفرانسيس فوكوياما وغيرهما الذين يعتقدون بواقع المواجهة بين الحضارات كالحضارة الإسلاميّّة في مقابل الحضارة الغربية وغيرهما، لذلك وجب علينا حمل عتادنا في هذه الساحة باستخدام الوسائل المتنوعة على أحسن وجه، واخلاص نياتنا لله تعالى وللحق الذي نعمل لأجل نشر رايته، فالنية الخالصة سبب لاستجلاب عون الله وتوفيقه ليكون الله تعالى هو المنفذ.
أنا أعتقد أن هذه الوجهة الاعتقادية نحو الله تعالى وطريق الحق تزيد مستوى الأثر والقدرة على إصابة الهدف في أي ساحة مواجهة كانت، فكيف بها ساحة التأثير في النفوس؟
8 – كيف للبشرية اخذ العبرة في مسألة الحفاظ على الحقيقة واستمراريتها رغم تقادم الزمن؟
للبشرية نمطان في التعامل مع الحقائق المتواترة عبر الزمن: نمط يأخذ جزءا من الحقيقة ويغض النظر عن الباقي، ونمط يعتبر من الحقيقة بجميع أبعادها.
رغم تقادم الزمن، فإن تطوّرات الأحداث وأدوار الاقوام لها أساسها واستمراريتها عبر التاريخ ويجب أخذ العبرة منها باعتبارها جزءا من حقبة زمنية تشكل حيزا من الدراسات التاريخية قديمة وحديثة.
نحن نلمس مثالا واقعة كربلاء ودور الإمام الحسين (ع) في تلك الحقبة الزمنية. لقد اختار الإمام الحسين (ع) قرار الحرب والمواجهة رغم علمه بأنه محكوم بالشهادة. ونرى في تحليل الكثيرين من الناحية العسكرية أنها تعتبر هزيمة، أما من ناحية الاعتبارات التاريخية وتطورات الأحداث السياسية التي جرت ونقلت عبر الأجيال لتصلنا في زماننا الحالي، فإن الحفاظ على تفاصيل هذه الرواية وأهداف هذا الحدث بأبعاده المختلفة يعتبر انتصارا تاريخيا عظيما.
نحن نعتبر كربلاء امتدادا للمواجهة بين الحق والباطل، بين الخير والشر اللذين كانا ولا زالا قطبي الصراع الدائمين عبر التاريخ، وهذه الرواية التي نقلت من جيل إلى جيل، والفضل الأول يعود في ذلك إلى السيدة زينب (ع)، المرأة، والعاقلة المتزنة التي اخذت على عاتقها حمل هذه الرسالة الثقيلة، فكانت والامام زين العابدين ابن الإمام الحسين (ع)، الشاهد على واقعة كربلاء والناقل لتفاصيل رواياتها عبر رحلة السبي الأليمة، حيث كانا هنا يأخذان الدور الاعلامي في نقل المواقف والأحداث بأسلوب العزاء، فكانا، إضافة إلى كلّ من تجاوب مع كلامهما وموقفهما وشاركهما تعقّل الحقيقة والعزاء في فجيعة هذا القتل الأليمة، سببا في وصول هذه الملحمة التاريخية إلى يومنا هذا دون انقطاع منذ ألف واربعمئة سنة.
إن العبرة العميقة التي تحملها ملحمة عاشوراء، واستمراريتها المتصلة بزماننا رغم تقادم الاحقاب على أحداثها، تبدأ في حقيقة كونها كتابا مفتوحا لا ينضب فحواه، فكيف لحادثة عريقة أن تظل حقيقة متواترة بهذا الوضوح عبر الشعوب والأقوام، لتصبح بعد ذلك ثورة عالمية وحقيقة عالمية وعبرة عالمية لتشمل جميع الناس دون استثناء. فإذا اخذناها باعتبارها قصّة ثائر ضدّ الإرهاب، ففيها ما يكفي من احداث وعبر للناس باختلاف افكارهم واعتباراتهم ليميزوا بين الخير والشر والحق والباطل ويعرفوا حقيقة الإنسان ودوره الاساسي في كيفية أخذ المواقف في مثل هكذا أحداث.
نحن الذين وصلت الينا هذه الرسالة التاريخية وتلقفنا حقيقتها وعبرتها، نعتبر التهديد الزماني والتهديد المكاني باعتبار اللحظة، كلّ يوم هو عاشوراء وكل مكان هو كربلاء، واذا ما حفظنا هذه العبرة وهذه الحقائق التاريخية وآثارها نستطيع بذلك الحفاظ على قيمنا وهويتنا وقوتنا ومناعتنا التي تحفظ لنا أحقية المواجهة والنتيجة القائمة عليها ألا وهي النصر المستمد من الله تعالى، رغم كلّ ما قد تشهده البشرية من تقلبات زمانية ومكانية وما يتبع ذلك من احداث وتطورات.
9 – فلسطين الرواية: كيف استطاع العالم الافتراضي تحويل حرب الروايات إلى كفة الفئة المستضعفة والمنكوبة في غزّة، حتّى تنطلق الحملات الاعلامية المناهضة للاستعمار من عقر دار المستعمر، ومن قلب جمهوره ومجتمعه؟
لم يكن الإعلام الغربي او القنوات الغربية كـ BBC وCNN وfox news وغيرها من القنوات العاملة لصالح الكيان الصهيوني، لم تكن تتوقع أن التغطية الاعلامية قد تصل لهذا المستوى في نقلها وقائع الحرب على غزّة وتطورات الأحداث في جنوب لبنان ومواجهات المقاومة الإسلاميّّة في العراق وكذلك خصوصا التدخل اليمني الشجاع والبطل في هذه الحرب، الذي استطاع تهديد جبهة العدوّ وتوجيه خطر مباشر للأميركـي وتلويح وقوع حرب عسكرية معه. كلّ هذه التفاصيل لم تكن ضمن توقعات الجبهة المعادية او اعلامها، ولم يتوقع ان العالم سيتعرف بهذا العمق على الشعب الفلسطيني المستضعف والمقاومة بشكل عام ضمن هذه الحرب الاعلامية.
فإن الدكتاتورية التي يعيشها الغرب وخصوصا الدكتاتورية الاعلامية، على الرغم من قدراته وتقنياته التي تخوّله نشر ومحو ما يحلو له من وقائع، والحدّ من وصول المنشورات المختلفة والحسابات الداعمة للقضية إضافة إلى التحكم بمنع نشر أسماء وصور كبار قادة ورايات جبهات المقاومة، كلّ هذه القدرة لم تستطع منع صورة وصوت الحقيقة من الانتشار حول العالم وبشكل اوضح من المتوقع.
الغرب متناقض في مفاهيمه، وبالتالي فإن نتيجة أفعاله لن تكون متوازنة، ألم يوهم العالم أجمع أن الديموقراطية من قيمه؟ ثمّ إنه يدعم في رواياته التاريخية شخصا بوحشية الاسكندر المقدوني الذي قتل الكثير من الناس في آسيا وإيران وبلاد الشام وجعل من دكتاتوريته بطولة في الفكر الغربي، وعلى إثر هذا تسير الرواية الاعلامية الغربية لما يحدث في غزّة، حيث علا صوت الغرب تضامنا مع 40 طفل “مزيف” من الصهاينة بادعائه أن مجاهدي المقاومة الفلسطينية كانوا السبب في قتلهم، ليتضح بعدها زيف هذا الادّعاء، فليس فقط لم تعتدي المقاومة على الأطفال، بل ليس هناك في أصل الحدث أطفال أصلا. هذا وفي المقابل يقتل ثمانية آلاف طفل فلسطيني وترى الغربيين صما بكما عميا عن كلّ تلك الأرواح المزهقة، ذلك لأن مصالحهم تستدعي ذلك.
إذا فحضارة كهذه قائمة على التناقض ومنجرة وراء المصالح الدونية التي تحققها بالقتل والدمار والإرهاب، يضاف إلى سجلها آلاف الأحداث التاريخية مثل هيروشيما وناكازاكي في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وفي “درزن” في ألمانيا خلال نفس الحقبة، وكثير من الأحداث في افريقيا وأميركا اللاتينية.
لقد عجز الغرب عن السيطرة على وسائل الإعلام، بل لقد عجز عن إيقاف تفشي الحقيقة التي دفعت بشعوب تلك القارات إلى التظاهر وملء الشوارع بهتافاتهم واستغلال جميع قدراتهم في دعم الشعب المظلوم في فلسطين، فلم يوفروا وسيلة بدءا من التظاهر، والنشر على مواقع التواصل، وحتّى صناعة المحتوى والكثير من الأعمال المميزة في الدفاع عن أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه المغتصبة. لم تعد هذه الحقيقة خفية عن أحد في الغرب، لم تعد تقتصر على المسلمين أو العرب في بلاد الاغتراب، بل وصلت إلى اسماع وابصار شعوب الغرب جمعاء من اوروبيين وأميركيين وغيرهم. اولئك الذين ولدوا وتربوا في هذه البيئة العنجهية، استيقظوا على أصوات صراخ اطفال غزّة، ليعرفوا حقيقة ما يعاني شعب فلسطين الأبيّ، ما دفع بأحد النشطاء للقول: ” فلسطين حررتنا”!
وهذا أمر ليس بالهيّن، أن يظهر من بوتقة الثقافة التحررية، ثقافة الممثلين الغربيين، من تحررت بصيرته ليستطيع النظر خارج اطار ثقافة سيطرة التواصل الاجتماعي والاعلام الغربي بكل ما لديه من قوة الايهام والسيطرة على العقول، وهذا “التحرير” يعد ضربة قوية موجعة استطاع تحقيقها مجاهدو المقاومة في عملية طوفان الاقصى، ومن يشد على ايديهم من مؤيدين، لتشكل داعما كبيرا مؤازرا لساحة الحرب الميدانية العسكرية. أقولها بكل جرأة، لقد بدأ الغرب بفقدان تلك القوّة التي استطاع من خلالها نشر ثقافته إبان الحروب الصليبية وما بعدها، لقد بدأت شعوب الغرب بالتحرر من آثار الحرب الاعلامية والروائية الغربية وأبسط دليل على ذلك تأثر هذا الكم الهائل من الناس بقضية فلسطين إلى أن ملؤوا شوارع دولهم، بدءا من اوروبا وأميركا وصولا إلى اليونان والبرازيل وحتّى بعض بلاد الشرق كاليابان وكوريا الجنوبية، حتّى العاصمة الفرنسية باريس، وكذلك العاصمة البريطانية لندن التي شهدت تظاهرة حاشدة بآلاف مني المحتجين، الأمر الذي دفع بإعلامهم إلى اتهام إيران بنشر اتباعها في لندن والذي علق عليه السيد القائد الخامنئي بالسخرية.
لقد كان للحملات الاعلامية الداعمة للقضية الفلسطينية الدور الاكبر، كما نخص بالذكر اخواننا في الإعلام الحربي في المقاومة الإسلاميّة في لبنان، الذين أدوا دورا عظيما منذ بداية الحرب بالتغطية المباشرة لكل حدث، ولا ننسى دور دم رفاقنا الشهداء الذين نخصهم بالتحية من على هذا المنبر.
باعتقادي أن هذه الحملات وتوسعها لن يتوقف عملها بل وسيظل أثرها ممتدا حتّى وإن توصلت الأطراف المتنازعة إلى اتفاقية إطلاق نار. صوت الحق هذا لن يوقفه هدير منصات الباطل، بل سيزداد قوة، وأرى أننا نملك من القوّة ما يخولنا البدء بتأسيس منصاتنا الخاصة في التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع لمنافسة نظيراتها التابعة لقوى الاستعمار، بل ويجب اعتماد لغات أجنبية إضافة إلى اللغة الأم كي ينتشر صداها في المجتمعات العالمية بشكل أوسع بعد أن بدأت بالتعرف على حقيقة الصراع العالمي في القرن الحالي.
للتاريخ قدرة عجيبة في إعادة نفسه. تتكرّر أحداث التاريخ وتنتهي بخلاصات وعبر فيها من آثار رحمة الله ما يبني في نفس الإنسان مناعة وصلابة وثباتا سموًّا به نحو مطلبه وإنسانيته.
الهوية، مناعة ضدّ أي هزيمة، تقوم على معرفة الزمان وأهله، ومعرفة النفس كما معرفة العدو. هنا حيث تظهر نقاط الضعف والقوّة، وتدرس، حتّى يصار إلى بناء حصن يمنع كلّ فرد من جماعة من الوقوع في أباطيل الوهم، أو تسلق سلالم السراب.
حفظ التاريخ، والثبات على الهوية، قائم على اخذ العبرة وعدم الغفلة والتجاهل اللذين يسببهما توهم القوّة والمعرفة، والعبرة مفهوم ثابت متسلسل لا يقطعه أعتى حدّ من اعاصير الحروب النفسية.
تباد الأقوام، ولا يتوقف قلم الأزمان عن نقل الرواية. الرواية وشم مختوم بالدم، وبعض الصبر والكثير من اليقين والايمان، أعمق من الجرح، عمق الأنفس في الأرواح السّارية.