على ما يبدو لا انتصار إسرائيليًّا حتّى الآن في الحرب على قطاع غزّة أو تحقيق للأهداف غير الواقعية ولن يكون بإذن الله والتي من أجلها خرج جيش العدوّ إلى الحرب. وما طُرِحَ من سيناريوهات خيالية لوقف الحرب لا وجود له في أي صفقة يتم الحديث عنها، وما زالت المقاومة في فلسطين متمسكة بخياراتها وقرارها وما زالت على موقفها بصفقة تبادل شاملة بعد وقفٍ شامل لإطلاق النار ورفع الحصار، إلى جانب أنَّ هذه الهزيمة المدوّية للكيان الغاصب لا تعني انتهاء دوره الوظيفي كما رسمته له القوى الاستعمارية أميركـا والغرب كحامٍ لمصالحهم الاستراتيجية وعصاهم الغليظة في المنطقة العربية والإسلاميّة، وسيبقى هذا الدور ولو بشكل جزئي أو محدود على الرغم أن التجربة أثبتت أنه سريع الانهزام والتآكل وبحاجةٍ إلى الحماية والمؤازرة كما ظهر ذلك من خلال يوميات الحرب الدائرة اليوم على أرض قطاع غزّة ومسارعة الأساطيل الغربية لتوفير الدعم اللازم للعدو.
أيضًا جاء تعدُّد الساحات – الجبهات التي تُشكِّلُ محور المقاومة في المنطقة وفاعليتها وتأثيرها في الحرب القائمة والمواجهة الدائرة في الميدان ليؤكِّد على عجز هذا الكيان عن القيام بوظيفته وفقدانه لهذا الدور الاستراتيجي المرسوم له، بل وهدّد هذه المصالح ورفع حجم المخاطر الوجودية التي تحيط بها، كما وأظهر أنَّ الطاقم السياسي والعسكري في الكيان الغاصب هزيل وفاسد وفوضوي ويواجه ضغوطات كثيرة على المستوى الداخلي من الأحزاب المعارضة والجمهور عامَّةً وعائلات أسرى عملية طوفان الأقصى خاصَّةً لإنهاء هذه الحرب وإعادة أبنائهم أحياء في إطار صفقة شاملة تطلقهم وتعيدهم إلى بيوتهم سالمين بعد مقتل عدد لا بأس به منهم خلال عمليات القصف والتدمير الجارية في غزّة. وعلى ما يبدو أنَّ هذه الصفقة حتى الآن ليس لها أفق واضح وبحاجة لمزيد من النقاش وإلى ممارسة المزيد من الضغط العسكري والميداني في القطاع والضفّة على حدٍّ سواء.
المقاومة في فلسطين وخاصة في قطاع غزّة تتابع وككل يوم عملية التنكيل والقتل وإيقاع الخسائر وقتل الضباط والجنود وتدمير الآليات في إطار الضغط الميداني المتواصل لإجبار العدوّ على التراجع عن العمليات البرية والرضوخ للصفقة موضع التفاوض في أكثر من عاصمة عربية وغربية، وتتعالى الأصوات في أكثر من ساحة وميدان حول ضرورة إنهاء العملية البرية بسبب الفشل الحاصل والخسائر المتتالية كلما حاول التوغّل أكثر في شوارع وطرقات المخيمات في القطاع واستمرار عملية استهداف الجبهة الداخلية بعد سلسلة تصريحات تعكس انتصارات وهمية في الحد من إطلاق الصواريخ حتّى أتت عملية استهداف “تل أبيب” بعشرات الصواريخ في الدقائق الأولى لهذا العام الجديد 2024. كلُّ هذا مجتمعًا انعكس خلافًا بدأ يطفو إلى العلن وفي وسائل الإعلام بين أطراف حكومة الحرب وظهور تباينٍ مع الموقف الأميركـي ولو ظاهريًا حول الاستراتيجية المتَّبعة في الحرب والوقت الممنوح أميركـيًا لتحقيق أية أهداف ممكنة، وإصرار القيادة العسكرية الصهيونية على الاستمرار في العملية البرية أملًا بتحقيق إنجاز ميداني ما يُفرغ صفقة التبادل الجاري من مضامينها وبما يسمح بإظهار شبه انتصار لهذا العدوّ على المقاومة الفلسطينية.
على المقلب الآخر دائمًا كانت المواجهة وبكلِّ أشكالها بين الكيان الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركـية والغرب في مقابل الجمهورية الإسلاميّة في إيران تسير على حدّ السّكين ويسمع فيها صريرُ الأسنان وتسيل منها الدماء الناتجة عن العضِّ الشديد على النواجذ وإيقاعٍ للخسائر في توصيفٍ شبه دقيق لواقع قساوة الصراع الأمني والاستخباري القائم بينهما والذي تُرجِم في العديد من الأحيان عمليات سريّة في العمق مستهدفة كوادر وقيادات وعلماء ومسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين وعلى أعلى المستويات مرفقةً بحربٍ سيبرانية ضروس تستهدف مؤسسات حكومية اقتصادية ومالية ومراكز التصنيع الحربي ولم تسلم منها المؤسَّسات الأمنية والاستخبارية وحتّى المنشآت النووية بهدف التشويش عليها وتعطيل خوادمها والحصول على معلوماتها وكشف مخطّطاتها. مواجهةٌ كان وما زال ميدانها ملفات متعددة حساسة تشكِّل خطورة كيانية ووجودية على الاحتلال بشكل أساس وفق مبادئ وقيم التزمتها الثورة الإسلاميّة في إيران منذ انطلاقتها مرورًا بانتصارها في العام 1979م وحتّى يومنا هذا وفي مقدَّمها مواجهة الهيمنة الأميركـية واستكبار واشنطن في المنطقة وقضية فلسطين وشعبها المظلوم وإزالة الكيان الغاصب وتحريرها حتّى باتت أي عملية رمي حجارة أو طعنٍ أو دهسٍ لمستوطن يهودي أو إطلاق نار أو تفجير عبوة أو إطلاق صاروخ في فلسطين إنما هي بدعمٍ وتحريضٍ إيراني وفق الرواية الصهيونية المصابة بالفوبيا الإيرانية. كما ودعمت هذه الثورة المباركة حركات التحرّر والمقاومة حول العالم، وفي المقابل ورغم الحرب المفروضة سابقًا، العدوان العراقي على إيران (1980 – 1988)، والحصار الاقتصادي الحالي والضخّ الإعلامي الخبيث والهجمة الثقافية المشبوهة والحروب الناعمة وإثارة القلاقل والفتن الداخلية واستهداف قياداتها وكوادرها بالقتل والاغتيال، رغم كلّ ذلك تعاظمت قدرات الجمهورية الإسلاميّة بشكلٍ إعجازي وعلى عدة مستويات، البشرية منها والاقتصادية والتقنية والتسليحية حتّى وصلت إلى الفضاء وأطلقت أقمارها الاصطناعية، وأكثرها خطورة الإنجازات المبهرة في الملف النووي السلمي ما جعل ليل قادة الكيان مؤرقًا مليئًا بالكوابيس والاحلام المرعبة.
في السنوات الأخيرة تطايرت تلك الرسائل الدموية يمنةً ويسرةً في صراعٍ مفتوح لا قواعد فيه ولا التزامات وأخطرها على الإطلاق اغتيال قائد فيلق القدس اللواء الشهيد قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما خلال زيارة رسمية إلى دولة العراق والذي نفِّذ بأيدي أميركـية صهيونية، رسائل متبادلة على الضفتين، تصفيات واغتيالات لعلماء وقيادات عسكرية وأمنية، تفكيك خلايا تجسس وإرهاب، عمليات خفية ميدانها العالم أجمع. ويمكن أن يستغرب البعض أنه جرت فيها أيضًا عمليات خطف متبادلة صامتة دون إعلان، عمليات لا هوادة فيها أو رحمة ولا قواعد تحكم سلوكها، لا عينٌ بعينٍ ولا رأسٌ برأسٍ وهل كلُّ الرؤوسِ سواء! عمليات سريَّة وما خفي منها أعظم ولو أنَّ بعضًا من شذراتها الضبابية يُقرأ بتصريحات قادة العدوّ من سابقين وحاليين حول استهدافٍ هنا واغتيالٍ هناك، تارة في “تل أبيب” وطورًا في نتانيا أو حيفا أو القدس، وفي أكثر من نقطة داخل الكيان الغاصب يتكتم العدوّ عن منفذيها ونتائجها، وكذا تنفيذ العدوّ جرائم غادرة وجبانة في طهران ومدن إيرانية أخرى وفي سورية وتركيا والعراق والشرق الأدنى ودول الاتحاد السوفياتي سابقًا وأمكنة أخرى من هذا العالم.
إنَّ الاستهداف الأخير للجنرال “رضي الموسوي” هو خطوة جريئة وحساسة من قبل الفاعلين ورسالة قاسية ودموية باتجاه إيران ومحاولة مكشوفة لاستجرار الاشتباك والمواجهة. كما ولها عدة أهداف أولها تعبيرٌ عن حجم الهزيمة المدوية والمنكرة لجيش العدوّ الإسرائيلي في قطاع غزَّة ولمعرفة هذا العدوّ بالدور الأساس والاستثنائي والاستراتيجي للثورة وللجمهورية الإسلاميّة وللحرس الثوري وفيلق القدس تحديدًا في دعم وتسليح وبناء قدرات وتطوير خبرات المقاومة في فلسطين ولرئيس أركانه في سورية “الجنرال الشهيد الموسوي” والمستهدف بالاغتيال وجهده الحثيث في بناء قدرات وإمكانيات هذه المقاومة هناك تحت إشراف وتوجيه من اللواء الشهيد سليماني ومن بعده الجنرال قاآني. كما وتحمل رسائل أخرى متعدِّدة لكل محور المقاومة لها بعدها اليمني لوقف “الاستفزاز والاستهداف والحصار” وفقًا لمنطق العدوّ في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب والخليج الفارسي والمحيط الهندي. وشهدنا بالأمس أولى إشاراتها في الاشتباك البحري الذي جرى، وأيضًا لجبهة العراق وفلسطين ولجبهة لبنان ذات الحسابات المختلفة مع العدوّ الصهيوني والتي تبقى دائمًا مفتوحة على كلّ الاحتمالات والتطورات الدراماتيكية.
يُنقل عن الشهيد اللواء قاسم سليماني قوله: “إنّ الرد الحقيقيّ على اغتيال الشهيد عماد مغنيّة وأيّ قائد من قادتنا، ليس بالرد المباشر والاغتيالات، فلا كفؤ لقادتنا، إنما يكون الرد الوحيد والصحيح والمناسب هو تحرير فلسطين، ونحن نعمل على ذلك”، وهذا ما يعمل بروحيته كلّ أبناء المحور المقاوم. وعلى ما يبدو أن عزرائيل (ع) لديه العديد من المهمّات في القادم من الأيام. ولكن السؤال الأهم الآن: أين سيكون الرد الإيراني؟ ما هو الهدف؟ هل سيكون هادئًا أم صاخبًا؟ مع العلم أنَّ الإيراني لديه مقولةٌ شهيرة بأنَّ “طبق الثأر يُطبخُ على نارٍ هادئة ويؤكلُ بارِدًا”.