لا وَقف للعدوان.. ولا حربٌ شاملة

عند أعتاب شهره الثالث، يستمر العدوان الإسرائيلي الوحشيّ على قطاع غزة. لا وقف للعدوان يلوح في الأفُق. “إسرائيل” تظهر عاجزة عن فرض إرادتها على الأرض، ناهيك عن قدرتها على تنفيذ أهدافها المعلنة منذ اللحظة الاولى، على رأسها القضاء على حركة حماس وتهجير سكان القطاع نحو سيناء. يبدو العدو غارقًا في الرمال، تبتلعه غزة من دون رحمة، وهو مرتبك يفكّر بمآلات اليوم التالي المخيف بالنسبة إلى كيان العدو الاستراتيجي ومستقبل قادته السياسيين.


لا يمتلك العدوّ خيارًا غير الحرب، فلحظة توقّف العدوان بالنسبة إليه تمثّل اللحظة القاتلة والهزيمة الشاملة التي تمس بوجوده ونفوذ رُعاتِه الأميركيّين. إذًا، فلا مهرَب من استمرار العدوان لدى العدوّ الغاشم، ولا خطة وقف إطلاق نار موضوعة على طاولة مجلس الحرب في الوقت الراهن.


أما المقاومة الفلسطينيّة، فهي تؤدّي أداءً عسكريًا يزدادُ اتقانًا يومًا بعد يوم، ومن الواضح أنها قد أعَدَّت العُدّة اللازمة لهذه المواجهة، وثابَرَت في السنوات الماضية لخلق أرضية لا يمكن للعدو المكوث فيها إطلاقًا. تعمل المقاومة بمرونة داخل أرض المعركة، عبر إدراج خُطَط مَرِنة تنشَأ حسب ما تقتضيه وقائع الميدان، وهذا ما يصعّب على العدو إنجاز ما يطمح إليه، ولو تَكتيكيًا وبسلّم تراكمي يصنع أهدافًا كُبرى. حتى المُنجزات التراكميّة التي يتكلّم عنها البعض، لا تكاد تُذكَر إذا ما قيسَت بطبيعة المعركة والرؤية الاسرائيلية تجاه مقتضياتها. هذا إضافةً إلى النجاحات التكتيكيّة التي تحقّقها المقاومة ضمن إطار صَدّ العُدوان وتدمير مساراته.


قيلَ إن نتنياهو استَفاقَ بحالة جنون صبيحة 7 تشرين الأول المجيد، وأراد أن يلقّن محور المقاومة درسًا قاسيًا ومُنضيًا لا ينساه طوال حياته، لكن الأميركي منعه من ذلك في تلك اللحظة الانفعالية غير المحسوبة المخاطر، لكن لم يكن الاخير هو السبب الوحيد لذلك، إنما قرار فتح الجبهة الشاملة، وهنا بالتحديد جبهة الشمال ضد حزب الله، لم تَعُد، داخل الوعي الصهيوني، مسألة هزيلة يمكن التعامل معها في لحظات الجنون، وقد تلقّف ذلك نتنياهو، المحنّك، ومعه القادة العسكريّون والأمنيّون والسياسيّون أيضًا، فأحجموا عن القيام بفعل قد يودي بهم إلى التهلكة. فحسابات المعركة ضد لبنان مختلفة كليًا، نظرًا إلى حجم أرضية الجبهة والقدرات التي يمتلكها حزب الله، تلك التي راكمها منذ ما يقارب العقدين بانتظار لحظة الجنون الإسرائيليّة. من جهة أخرى، ورغم وجود المنظومة الاستخباراتيّة الضخمة لدى العدو، والتي تتربّع في المراتب الأولى على العالم، إلا أن العدو استَهتَرَ بقدرات حماس، وأراد تلقينها، وعبرها تلقين محور المقاومة، درسًا لا ينساه أحد منهم، ويفرض من خلال ذلك، نتنياهو، سيطرته السياسية على المشهد الإسرائيلي، ويفرض نفسه على إدارة بايدن.


فَتَحَ حزب الله النار صَبيحة يوم الأحد التالي لـ”طوفان الأقصى”، وانهالَت حينها التهديدات والتهويل، مضمونها “التحذير” من أن دخول حزب الله المعركة سيؤدي إلى تدمير لبنان. لم يعِر الحزب الأهمية لتلك التَهديدات من ناحية إقدامه على الدخول في المعركة وإصراره على تلقين العدوّ درسًا مُذِلًّا، بغية عدم الاستفراد بالقطاع الثائر، أما من الناحية العملية فقد وضعت المقاومة أمامها كافة الاحتمالات، وأعلنت الاستعداد للذهاب إلى أبعَد الخيارات.


في طيّات التهديد الغَربيّ خوفٌ من امتِداد الجَبهة، حيث أن الخسارة الكبيرة التي سَتَنتُج عن معركة كُبرى في المنطقة ستكون من حصّة المصالح الغربيّة ونفوذها فيها، وتَهديدًا مباشِرًا للهَيمَنة الأميركيّة على منطقتنا، ناهيك عن الحالة التي سَتخرُج فيها “إسرائيل” بعد الحرب.


أما التَهديد الإسرائيليّ فيأخذ طابعَين أساسيَّين، الاول داخلي، يحادِث وَعي المجتمع الإسرائيلي، بأن الكيان ليس ضَعيفًا. أما الطابع الثاني فيأخذ منحى التهويل على حزب الله. يحمل الأخير، تهديد الحزب، نوايا حقيقيّة في كثير من المواضع، إذ لا رَيب أن الحرب على لبنان مدرجة ضمن الحسابات “التقنيّة” منذ اليوم الأول للمعركة، وما يمنع ذلك هو قوّة المقاومة فقط.


فعليًا، لو أراد العدو فتح جبهة شاملة شمالًا لما كان انتَظَر حتى هذه اللحظة، فذُروَة الحرب انقَضَت في غزة، والقرار اليوم بِيَد المَيدان داخل القطاع. بَيد أن احتماليّة اشتعال الحرب الشاملة لم يَندَثِر بعد، ولم تخرج من إطار الخيارات الموضوعة على الطاولة لدى كافة الميادين المفتوحة. لكن مما لا شك فيه أن نسبة اشتعال المنطقة برمّتها لم تكُن مرتفعة منذ بداية عملية طوفان الأقصى، وذلك أولًا، لأن فتح الجبهة على مصراعَيها وبشكل كامل لن يوقف العدوان على قطاع غزة، ولا أي خيار عسكري سيوقف هذا النوع من العدوان الذي تقوده “إسرائيل” بعد ابتِلاعها صفعة غير مسبوقة هَدَّدَت كَينونتها وبُنيَتَها الكيانيّة؛ وثانيًا، لأن أي طرف من الأطراف لم يكن على استِعداد لذلك، وجاءَت العملية في غزّة مباغِتة للجميع، ومنهم محور المقاومة. وحيث أن لحظة المباغتة أُزيلَت، بل استخدمتها المقاومة الفلسطينيّة، وبالتحديد حركة حماس، فإن الخيار المنطقي الصائِب، من قِبَل قوى المحور، وحزب الله بالتحديد نظرًا لخصوصيّته داخل الصراع، كان بالمساندة، مع الحفاظ على عدم تخطّي الخطوط العُليا داخل قواعد الإشتباك العامة، ولا حرق المراحل دفعة واحدة، إنما بالسَير التَدريجي تِبعًا لِمُندَرجات المعركة المفتوحة في قطاع غزّة.


في حرب تَحَرُّرِيّة كاملة الأوصاف، يندَرِج “التَوقيت” كعنصر أساسي، بحيث تَحين لحظة المعركة حين الوصول إلى القدرة على ضرب المُستَعمِر، في هذه الحالة “إسرائيل”، بالضربة القاضية التي لا يمكن له الإنفلات منها، وهذا ما لم تَصِل إليه قوى المقاومة بعد. فَلَحظة الانقضاض الشامل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كافة السيناريوهات، بما فيها تدخّل القوى الغربية، الأميركيّة بالتحديد، على خطّ المعركة بشكل مباشر. وهي بالتالي، تمثّل “اللحظة المناسبة”، التي ستَرتَكِز على القدرة العسكرية المُتكامِلة، بحيث تخلق واقعًا قادرًا على القضاء على “إسرائيل” بشكل نهائي، فزمان “الجولات” العسكرية كان قد ولّى، من قِبَل جبهات المقاومة خارج فلسطين، وذلك قبل عملية طوفان الأقصى البطوليّة، التي غيّرت الوقائع، وبناءً عليه احتاج حزب الله إلى التعامل مع اللحظة بخصائص مستجدّة تُحاكي وقائع العملية المُمتَدّة إلى الآن.


من ناحية العدوّ أُبطِلَت لحظة المباغتة أيضًا، وبات الجميع على استعداد للسيناريوهات القصوى، فَفَقَد العًدوّ عنصرًا أساسيًا إذا كان ينوي ضمن إطار خطة ما شَنّ هجوم مباغِت على حزب الله وإلحاق الهزيمة به من دون عناء. أما “إسرائيل” اليوم تسبح في “مُحيط” غزّة الهائج، ولا تدري ما هي الخطوة التالية بعد فشل القضاء على حماس.
فتْح جبهة أخرى، بالنسبة إلى العدوّ، ليس بالأمر السهل، لا بل ليس بالأمر المُتَيَسّر في الوقت الحالي، ويحتاج إلى دراسة دقيقة لطبيعة المعركة الشاملة مع حزب الله وسيناريوهات ارتِقائها، كما والأثمان التي ستُدفَع من جرّائها، والعواقب التي ستَتَكبّدها الجبهة الداخلية والمستوطنات الأساسيّة والمرافق العامة والبُنى التحتيّة الإسرائيليّة، وعليه يتعامل العدوّ مع خيار تَوسعة الحرب في الوقت الراهِن كأنها غرق إضافي لا يدري كيف سيكون المشهد في يومها التالي.


وفي بَحثنا عن احتمالات الحرب الشاملة، هناك عنصر أساسي في الرؤية الشاملة لها، إنه الأميركي، الذي لا يمكن لأحَد تخطّي مَدَيات تأثيره على المسارات الكُبرى في المنطقة، الناعمة منها والصلبة. أميركا اليوم تريد احتواء القتال، لكن من دون هزيمة “إسرائيل”، وهذا الذي يجعلها أمام حرب مفتوحة في غزة لا يوجد خيار آخر لها. لكن أولوياتها ليست هنا، فهناك جبهة أوكرانية مفتوحة، يمكن لهزيمة المحور الاميركي فيها أن يودي بقوّتها الهَيمَنيّة ويقضي على سَيطَرتِها الاستعمارية، وهذا كابوس استراتيجيّ لا زالت الولايات المتحدة تتعامل معه في الميدان وخارجه، وهي في قلب المجابهة حاليًا. أما القلق “الشرق آسيويّ” فله حكاية أخرى، حيث الصين وما تشكّله من خطر وجوديّ حقيقي على الإمبراطوريّة الماليّة الغربيّة، التي تحكم بها أميركا العالم عبر رأسماليّتها المُميتة. ليس من مصلحة أميركا حاليًا الانشغال بمعركة “وجوديّة” أخرى، فغَرب آسيا بالنسبة لها منطقة فاعلة، ولو أنها قلّلت من التفاعل معها في السنوات القليلة الماضية.


هكذا إذًا، خيارات الحرب الكُبرى تأخذ طابِعًا سياسيًا، يَتَّخذ العنصر العسكري منه البُنيّة الأساسيّة. لا زالت الجبهة في الجنوب اللبناني التي تُسانِد أهل غزة، تحافظ على قواعد الاشتباك الخاصة بالحرب، والتي تختلف عن تلك القواعد في زمن السلم، وهذه الشُبهة التي يَقع بها الكُثُر من الناشطين في الميدانَين السياسي والعسكري. فقواعد الاشتباك اليوم لا تشبه تلك التي كانت مُثبّتة عشية 7 أوكتوبر. من ناحية أخرى لا تستطيع “إسرائيل” وقف العدوان من غير تحقيق أهدافها. لذلك فإن المشهد معقّد، ولا يمتلك أحد رؤية النهاية التي سترسو عليها المعركة. وعليه، فإنه، وحتى إشعار آخر، لا وقف لإطلاق النار، ولا حرب شاملة.

اساسياسرائيلطوفان الاقصىفلسطينلبنان