أعادت القوى الآسيوية في تشكيل قواها، وإظهار انبعاثها من جديد، فالأمبراطوريات الضخمة التي قامت في آسيا وحكمت مساحات كبيرة من العالم ولفترات طويله نرى شعوبها اليوم في حالة من الفوران السريع نحو إعادة تشكيل نفسها ولو بطريقة مختلفة في بناء قدراتها العسكرية وبتحالفات اقتصادية ناعمة وبتحديد توجيه قواها. إن حالة الاختباء التي مرت بها القوى الآسيوية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي لم تكن سوى مرحلة تجهيز للعودة بعد الانكفاء المريع لها عن الساحة العالمية.
فالقوى الثلاث التي تتمثل بروسيا والصين وإيران مرت كل منها بحالة من الركود والخمول الطويل نتيجة التقدم والاستشراس الغربي في اسلوب السيطرة على العالم بسبب فائض القوة الذي أنتجته أوروبا خاصة بعد التطور الصناعي والتكنولوجي الناتج عن الثورة الصناعية بحيث امتلك الأوروبيون قوات بحرية عسكرية استطاعوا من خلالها بسط سيطرتهم على جزء كبير من العالم وسحب كل ما استطاعوا من مقدراته ومواده الأولية ليبنوا عالمهم الاقتصادي الضخم المحمي بقوى عسكرية ضخمة.
جاءت الحرب العالمية الثانية لتنهي التموضع الأوروبي العالمي بشكل شبه كلي ولتنتقل السيادة العالمية إلى قوتين هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، ثم جاءت الحرب الباردة لتنهي القوة السوفياتية ولتتركز القوة على مدى ثلاثين عامًا في اليد الأميركية.
خلال هذه الثلاثين عامًا كانت القوى الآسيوية الثلاث قد بدأت بتفعيل إنتاج قواها لإعادة تموضعها العالمي، فعام 1979 بدأت الصين تنفيذ سياسة “الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي” أي الدخول التنافسي على ساحة الجغرافيا السياسية والاقتصادية في العالم، وهو تغيير في العقيدة الصينية التي كانت في السابق تعتمد سياسة الانعزال. وفي نفس العام نجحت الثورة الإسلامية في إيران في إسقاط الشاه الموالي للولايات المتحدة وسحبت إيران إلى تموضع جديد خارج السرب الأميركي. وتمثل الأعوام 1979 ـ 1989 فترة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وآخر أيام روسيا السوفياتية التي تمظهر فيها فشل النموذج الاشتراكي السوفياتي وفيها بدأ ظهور الانهيار العسكري والاقتصادي.
مع هذا التحول الآسيوي كان الأميركي يجيد قراءة الخريطة الجيوسياسية المقبلة، ويعرف أن ترك الساحة الآسيوية فارغة من قوة عظمى مسيطرة سيفسح المجال تلقائيًّا وبسرعة أكبر لنهوض آسيا مجددًا بقوها الكامنة التي بإمكانها سريعًا التحول لقوى عالمية تنافس الأميركي على طرق التجارة ومنابع النفط، فأدخل بسرعة قواته وقواعده العسكرية والأسطول الخامس الى الخليج كبديل لنظام الشاه، ووسع حلف الناتو الى أوروبا الشرقية، وتموضعت قواعده العسكرية في أواسط آسيا من آذربيجان الى كازخستان والجمهوريات السوفياتية السابقة لحصار روسيا، وأرسل الأسطول السابع الى بحر الصين ومضيق ملقا، وعزز تموضع الأسطول السادس في المتوسط. وبذلك إذا نظرنا إلى خريطة آسيا نراها محاصرة ومخترقة بالقوات والقواعد الأميركية في القلب ومن جميع الاتجاهات، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد طبقت نظريتي عالمي الجيوبوليتيك سبايكمن الهولندي الذي قال بالاحتواء، وماكيندر الإنكليزي الذي قال بالسيطرة على قلب العالم وأشار في نظريته بقوة إلى إيران وأفغانستان بالقول إنهما “دولتان مركزيتان في قلب العالم “، إضافة إلى تطبيق نظرية ماهان التي تحدث فيها عن القوة البحرية وسرعة الانتقال والسيطرة.
الجغرافيا الحتمية وماذا حصل في السنوات الأخيرة؟
قُرع جرس الإنذار الأول في آسيا مع التحول في إيران من إيران أميركية إلى إيران إسلامية، وقرع الجرس الثاني مع مجيء بوتين عام 2000 الى حكم روسيا محملًا بعقيدة الأوراسيا متأثرًا بألكسندر دوغين ويحمل في داخله الانتقام لروسيا الأمبراطورية والسوفياتية التي كانت على صراع مع أوروبا قبل الحربين العالميتين ومع أمريكا في الحرب الباردة. وقرع الجرس الثالث مع الصين التي بدأت بالتنفيذ الفعلي لصعود اقتصادي ضخم والقفز خارج الأسوار والالتفاف على الحصار الأميركي الذي يمتد من اليابان الى الهند مرورًا بتايوان بالدخول الى عمق آسيا والتحضير للدخول الى عمق أفريقيا بتنفيذ “الإستراتيجية الزرقاء” لجيش التحرير الشعبي. والإستراتيجية الزرقاء هي خطة لتنفيذ عملية النقل بحماية الجيش الصيني ومد سكك حديد وبناء موانىء بحرية متصلة ببعضها البعض وهي أساسية في عقيدة طريق الحرير. وقرع الجرس الرابع مع انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000.
ومع هذا التشكل الجديد كان لا بد للأميركي من التحول من البقاء على حواف البحار والهامش والانتقال إلى بناء مصدات قارية داخلية؛ فهو يعتبر أن قواعده في الخليج هي المصد الأول بوجه الجمهورية الإسلامية، ودخوله إلى أفغانستان يشكل مصدًّا قاريًّا داخليًّا بوجه إمكانية التمدد الصيني إلى عمق آسيا، إضافة إلى تشكيل عازل بين الصين وإيران ومحاصرة إيران في نفس الوقت الذي أتمه بالدخول إلى العراق عام 2003، وتوسعة الناتو في أوروبا الشرقية ومحاولة السيطرة على شبه جزيرة القرم.
أجبرت روسيا الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا على إخلاء القواعد الأميركية المتواجدة فيها التي أنشئت بعد عام 2001، وأوقفت تمدد الناتو بالقوة في أوكرانيا ومنعته من الإمساك بالبحر الأسود عبر ضم القرم الى السيادة الروسية وهددت الدرع الصاروخية للناتو في أوروبا الشرقية.
في أفغانستان زاد الضغط العسكري الذي تتعرض له القوات الأميركية والغربية والضغط السياسي من قبل القوى الآسيوية الثلاث، والدخول الصيني بقوة على الاقتصاد الأفغاني ما جعلها تبدأ بحزم حقائبها وتسرع عملية الرحيل.
فاعلية اليد الصاروخية الطولى للجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة في غرب آسيا التي تطال كافة القواعد الأميركية وكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبلور رأي أميركي يقول إن من يضع قواعده تحت مرمى الصواريخ الإيرانية يكون أضعف في المفاوضات.
تمدد محور المقاومة في أربع زوايا أساسية في خريطة غرب آسيا ودخوله كعامل أساسي في وجه الهيمنة الأميركية وإفشال مشروع “الشرق الأوسط الجديد” من جنوب لبنان الى غزة فسوريا والعراق واليمن.
في الخلاصة إن المتحكم بالجغرافيا والخريطة السياسية للدول وبناء الدول هو من يمتلك القدرة والقرب جغرافيًّا وديموغرافيًّا من موقع الحدث، وكيفما جاء الغريب والبعيد عن الجغرافيا بأقصى قواته لفرض شكل جديد وتدخل جغرافي باعتماد سياسة نشر القواعد العسكرية على مفاصل الخرائط على شاكلة الأميركي والغربي لمحاولة فرض أمر واقع يحدد ويحاول التحكم بالسياسة الدولية، فإن أبسط تغير يحصل في موازين القوى تكون ارتداداته كبيرة على الدخيل الجغرافي، وبالتالي فإن حالة الخمول التي مرت فيها آسيا على مدى العقود الماضية وخاصة في آخر خمسين سنة من القرن الماضي قد انتهت، والتجديد الجيوسياسي تراكم وبدأ بالظهور خلال العقدين الأخيرين وبدأ بقرع أجراس الإنذار للإمبراطورية الأميركية. واليوم مع بداية الانسحاب من أفغانستان ستكر السبحة نحو العراق والحدود السورية وليس انتهاء بدول الخليج ستقرع أجراس الرحيل للأميركي من كافة آسيا.