يُعتَبَر السيّد المسيح، عيسى ابن مريم، واحدًا من الأنبياء الذين تعرّضوا لآليات ظلم عاتية في تاريخ المسيرة البشرية، وذلك لم يقتَصِر على الظلم الذي تعرّض له أثناء مسيرته الرساليّة في الدنيا، وإنما طالته المظلوميّة المعنويّة الجمّة بعد رحيله عن عالمنا المشهود هذا، بعدما رفعه الله تعالى، حيًّا، ليعود في آخر الزمان حيث المعركة الفاصلة، التي سينتصر فيها الخير ويعمّ في كافة أرجاء الكوكب. وبالتالي، فإن مهمّة رسول الله عيسى المسيح لم تنقَضِ بعد، لكنّه انكَفَأَ عن أعيُن البشر بُرهَة من الزمن، ليعود حين يحين أوان الانتفاضة الكُبرى على الظلم، وتكتمل العناصر التي تُتيح الحسم وتقضي على الجَور والاستبداد.
اتَّسَمَت مسيرة الأنبياء بالمظلومية بشكلها العام، وتعرّض الأغلبية الساحقة منهم للاضطهاد والعُزلة أثناء تأديتهم المهام الرساليّة الإلهيّة، لكن الفارق مع قضية النبيّ عيسى، أنه جاء حاملًا رسالة دين إلهيّ جديد، في لحظة تاريخيّة شابها الجَور بأعلى مراتِبه، وكان طغيان “اليهود” ينتشر في هذه البقعة الجغرافيّة التي نعيش عليها، وخصوصًا على الأرض التي صار اسمها فيما بعد “فلسطين”.
جاء عيسى برسالة دين جديد، وقد أبلغ عن نبوّته بذاته، حينها تكلّم في المهد، مُعلِنًا الشُروع بمسار كِفاحيّ ضد أعداء الله الذين يستبيحون أرضَه بظُلمِهِم واستِبدادِهم. حمل المسيح لواء المستَضعَفين والمظلومين، وكانت حياته عبارة عن مسار كوّن من خلاله إطارًا تخصُّصيًّا لجبهة الحَق العالمية، في وجه قوى الهَيمنة التوسّعيّة التي تنشد السيطرة على موارد العالم وتَستَعبِد شعوبَه وتُفرغ قِيَمه المجتَمَعيّة من مضامينها. وقد كان حازمًا في ما يتعلّق بالصراع المُمتَد منذ بدء الخَليقة، بين الاستكبار والمستَضعَفين، لذلك رسم له مسالِك ثابِتة تشكّلت على أساس قواعد مجابهة، وكَلَّله في إطار ثَورَوِيّ يبتغي اقتِلاع جذور الاستكبار، وهذا ما يحتاج إلى زمن مُتَكامِل يمتَدّ حتى مجيء المُخَلّص في آخر الزمان، عندما يتم الإعلان عن انتصار جبهة “الثورة” لِيَرث الأرض عباد الله المُستَضعَفون.
يُصادف هذا العام ذكرى ميلاد السيد عيسى المسيح مع الإبادة المستمرّة في قطاع غزة من قِبَل الكيان الصهيوني ضد الحجر والبشر في القطاع المذكور. عدوان همجي يرتكبه العدوّ الإسرائيلي لا يميّز بين ديانة وأخرى، ولا بين مسجد وكنيسة، بل يستهدف كل ما يرمز إلى الحياة داخل القطاع. قضى من الأبرياء الغزّاويّين أكثر من 20 ألفًا من الشهداء، جُلّهُم من الاطفال والنساء والعُجَّز. هناك مساحات كبيرة من القطاع أضحَت على هيئة صحراء قاحلة. جثث الشهداء تَحَلَّلَت، وأخرى دُفِنَت داخل مقابر جماعيّة. استَثارَت غزّة كل الضمائر الحيّة في العالم، وكشفت الأغشية التي كانت تبتدعها الدعاية الصهيونيّة والغربيّة حول طبيعة الصراع القائم على أرض فلسطين.
لِفِلَسطين حكاية خاصة مع المسيحيّة ومع السيّد المسيح، ففيها وُلِدَ الأخير، وفيها مهدُه، وفيها مسيرته “الجهادية” ضد أعداء “الهَيكَل”، وفيها جهاده ضد الظالمين ونُصرته للمُستَضعَفين. لكن، رغم تلك الرمزية، ظلّ صوت “الكنيسة” خافِتًا، وكان الاستثناء فيها للأصوات التي تُناصِر القطاع المحاصَر، بينما يجب أن يكون العكس في الحالة الطبيعيّة. وهنا السؤال لسلطة الكنيسة: “هل هكذا كان سيَتَصَرّف المسيح مع قضية فلسطين، ومع الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها الفلسطينيّون؟ الجواب سيكون “لا” كبيرة.
فالسيّد المسيح كان مُجاهِدًا ناصِرًا لإنسانيّة الله وشعوبه، لم يركن للظلم، ولم يصافح المُستَعمِرين. لكن السردية المضادة، الاستعمارية المنشأ، والسياسيّة المقصد، استُخدِمَت من ضمن المشروع الاستعماري الكبير الذي رافق البشرية بعد ولادة المسيح، فاحتُلّت البلدان تحت اسم المسيحيّة، وغزا المستعمِرون الشعوب ونسبوا غزواتهم، ضلالًا، للسيّد المسيح.
ومع ذلك، فتِلك ليست الطامّة الكُبرى. فقد أقام الرئيس “الإسرائيلي”، إسحاق هرتسوغ، لقاءً مع رؤساء كنائس القدس! لا بل طالب هرتسوغ قبيل اللقاء “زعماء العالم المسيحيّ” أن يدينوا ما أسماه “فظائع” حماس بشدّة، وأن “يدعموا” جهود “إسرائيل” للقضاء على الشر. ومن بين الحضور، كان المطران اللبناني موسى الحاج، ممثّل الكنيسة المارونيّة في الأراضي المحتلّة.
نعم، بارَك “كَهَنةُ” المعبَد العدوان الإسرائيلي ضدّ أهل غزة، وهم بالتالي أصبحوا شركاء في الجريمة، يُسبِغون شرعيّة إبادة العصر ضد أطفال فلسطين، ومنهم الكثير من المسيحيّين.
وبالعودة إلى التحريف الذي طال المسيحيّة، ورَبطًا بموقف الكنيسة في ظل العدوان الإسرائيلي على غزّة، فإن أكثر ما طالَه المُحَرّفون، هو إبعاد شخصية النبيّ عيسى عن الجهاد، وتصويره كشخصية مُسالِمة، وخانِعة في كثير من الأحيان، تُحَرِّم استخدام السلاح في وجه الأعداء الطامعين، ولا تؤمن بالكفاح المسلّح ومجابهة الظالمين في جبهات القتال. ضلَّل الأعداء، على مَرّ الزمن وباختلاف تسمِياتِهِم، العقل المسيحي، وجعلوه فِكرًا لا يَأبَه بالظلم الذي يحيط البشريّة، ويدعو إلى الحياد عن قضايا الحق، ما يعني خدمة الغُزاة والمُستَعمِرين. طبعًا نحن هنا نتحدّث بشموليّة، ولا نقصد أن كافة المسيحيّين خانعون، لكننا نسلّط الضوء على المؤامرة التي طالت الدين المسيحيّ، وجعلت من المسيح رجلًا خاضِعًا لا ناقة له ولا جمَل. فهناك الكثير من المسيحيّين قضوا في سبيل قضايا الحق على طول امتِداد هذا العالم، وارتقى الشهداء في هذا الخطّ أيضًا، وتَأَسَّسَت مقاوَمات تحمل طابِعًا مسيحيًا وحملت السلاح في وجه العُتاةِ والظالمين.
ما يَشبَه المسيح اليَوم هم المقاومون المرابطون على ثغور غزّة الأبيّة، يلقّنون الغُزاة دروسًا في التضحية والاستبسال والعِزّة. هم السواعد السُّمر التي تَدُكّ أعداء الإنسانيّة وتودي بهم إلى الجحيم. ما يَشبَه المسيح اليوم هم الذين سمِعوا استِنصار أهل غزّة فنَصروهم من دون تردّد، في جبهة جنوب لبنان حيث يتذوّق العدو مرارة الضعف والارتداع، إلى جبهة العِزّ في اليمن الأبيّ، حيث يقف العالم كلّه عاجزًا أمام أمّة حيّة تَأبى الذُلّ والهَوان، إلى جبهة العِراق التي تُشاغِل الأصيل هناك، وسوريا التي رغم جراحها أبَت إلا أن تكون السَنَد المقدام للمظلومين.
المسيح الذي بعثَه الله “مُجاهِدًا” في مشروعه الإلهي على الأرض، سيكون نصير المُستَضعَفين الذين سيَرِثون الأرض في آخر الزمان، وسيعود ومعه آلام الأطفال وأوجاع النساء الثكالى، ليُشهر السلاح بكل شجاعة في وجه الطُغاة المستكبرين، ويساهم في تحقيق وعد الله أن يورِث الأرض لِعِباده الصالحين.