حسن عماشا – الناشر
شكلت مفاجآت غزة في الجولة الأخيرة “سيف القدس” حدًّا فاصلًا بين ما قبلها وما بعدها، ما حتم على الولايات المتحدة الاميركية إعادة تموضعها في الإقليم وعلى مختلف الصعد وفي مقدمتها الانتشار العسكري، ليأخذ بعدًا دفاعيًّا على المستوى الاستراتيجي.
كانت الاستراتيجية الاميركية، والتي تكونت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تهدف إلى إعادة تكوين المنطقة العربية والإسلامية بما يخدم ديمومة سيطرتها وتكثيف استغلالها لتعظيم إمكاناتها في مواجهة الصين الصاعدة وإحكام السيطرة على مصادر الخامات والمعابر الدولية، للامساك بالشرق والغرب على حد سواء. وارتكزت تلك الاستراتيجية على تدمير الدول والكيانات المركزية، عبر إسقاط الأنظمة وتفكيك الجيوش باستثناء مصر، ولأسباب لا مجال لبحثها هنا. وفي السياق أطلقت الولايات المتحدة عمليات نهب مكثف لممتلكات الدول والكيانات المركزية من أسلحة الجيوش والذهب والخامات بأرقام خيالية تجاوزت العشرين الف مليار دولار وظفت الكثير منها في زرع الفوضى على مستوى العالم، ولم تسلم منها الدول والنظم التي تدور في فلكها، بل إنها دفعت الثمن الأكبر من تلك الدول التي واجهتها ورفضت الخضوع لإملاءاتها. حتى الرشى التي كانت تدفعها من حصاد التدمير والفوضى لبعض الدول مقابل تنفيذ أجندات محددة مثل تركيا وفرنسا وإيطاليا والسعودية وغيرها عادت وانقلبت عليها ولم تفِ بالتزاماتها تجاهها ما جعل هذه الدول تتخبط فيما بعد إلى حد ان عجزت الولايات المتحدة عن اعادة تنظيم قواها في خدمة استراتيجياتها وظهرت انها تريد كل الحصاد من دون أن تدفع أجر العاملين معها.
واذا كانت الولايات المتحدة تتلطى خلف شخصية ترامب واعتباره خارجًا عن سياق السياسة الخارجية الاميركية، ما ترك أوهامًا كثيرة لدى الحلفاء التاريخيين والدول التي تدور في فلكها، فسرعان ما بدء انكشاف ان بايدن ما هو الا شكل أكثر اناقة ورصانة لنفس السياسات التي انطلقت منذ عهد بوش الأب،
وصولًا إلى انكشاف ضعف قدرة الولايات المتحدة حتى على توحيد اداء دول “الخلف الاطلسي”.
من هنا اخذت معالم الاستراتيجية الاميركية الجديدة تتبلور على أسس مختلفة عن كل الاستراتيجيات التي اعتمدتها منذ الحرب العالمية الثانية. وهي هذه المرة ترتكز على قوة الولايات المتحدة بذاتها من دون حلفاء مكلفين باستثناء بريطانيا على المستوى العالمي والكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين. فبريطانيا ركيزة أساسية للتأثير في القارة الأوروبية والكيان الاستعماري قاعدة أرضية متقدمة، مع إعادة انتشار قواعدها العسكرية الجوية والبحرية بما يمكنها من منع الاستقرار في المنطقة وتوفير أقصى حماية ممكنة لجنودها مع الجهود الدبلوماسية والمخابراتية لتعزيز الفوضى والاستنزاف لقوى الاعتراض والدول المتفلتة من السيطرة الاميركية وفي مقدمتها إيران، مع توظيف مخاوف كل من أوروبا ودويلات الخليج من برامج إيران الصاروخية ودعمها لحركات المقاومة، إلى جانب التهويل على روسيا عبر تحريك جماعات الفوضى والتوتر القريبة منها وخلق مناخات تقطع الطريق عليها في تنظيم استثمارات في مناطق تخلق فيها الفوضى. وهذا ايضًا ينطبق على الصين في تعطيل إمكانية بناء مشاريع طويلة الأمد مع تفتيت الأسواق.
الا أنه في المقلب الآخر تكشف الأحداث والتطورات مسارًا مختلفًا ينمو ويتطور ترسمه دول المقاومة. وشكلت عملية “سيف القدس” مؤشرًا بالغ الدلالة على ان “محور المقاومة” لا يمارس رد فعل وحسب انما هو يخطط ويرسم استراتيجيات مضادة وينتقل من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم في كل مرة تندفع فيها الولايات المتحدة وأداتها المركزية المتمثلة بالكيان الاستعماري الاستيطاني. وفي كل خطوة عدوانية تكتشف أن الرد اعظم ومقومات التصدي أكبر. ورغم أن مكونات المحور المقاوم ليست على نفس الدرجة من التكامل المطلوب الا انها بعد كل حدث نوعي ترتقي في لحمتها نحو الوحدة التكتيكية بخدمة الاستراتيجية العامة والتي رفع عنوانها مرشد الجمهورية الإسلامية وهو إخراج أميركا من المنطقة.
وهذه الاستراتيجية وإن كانت ليست استراتيجية روسيا والصين ولكنهما لن تقفا حجر عثرة في طريقها ولا هما مستعدتان للعمل على إبقاء أميريكا، انما رغبتهما في الاستقرار والتفاهمات تامينًا لمصالحهما، تعاكسها ارادة الولايات المتحدة التي لا تجد مخرجًا من مأزقها الا في تعظيم النهب والاستغلال.
لقد سقط إلى غير رجعة وهم مسار التطبيع مع الكيان الاستعماري. ولم يعد الشعب الفلسطيني وحده في مواجهة الاحتلال، وأي تطور في فرض التهويد لفلسطين سيواجهه المحور المقاوم مجتمعا بما كشفته التطورات من إمكانات ضخمة لا قدرة للكيان على الوقوف بوجهها، كما سيكون الاميركي عاجزًا عن التدخل المباشر حتى يتجنب الخسائر المباشرة، وهو والذي مهما بلغت امكاناته التدميرية سيبقى عاجزة عن التصدي لما قد يتعرض له في قواعده.
تفصلنا عن إعادة البناء معركة لن يتأخر موعد حصولها وقد تتدحرج إلى أن تصبح حرب تحرير كاملة اذا ما حاولت أميركا ان تدخل مع الكيان الصهيوني في عملية تشكّل شعلة انطلاقة لحرب. وبالحد الأدنى ستكون اي معركة قادمة بداية لتفاهمات تبدأ بين روسيا وأميركا ومن ثم الصين تنعكس بفترة ستاتيكو يجري خلالها بدء ورشة إعمار تتعزز فيها العلاقات بين أطراف المحور المقاوم وحلفائه الدوليين.
اما في حال الحرب الشاملة فلن تصمد الولايات المتحدة كثيرًا وسيكون عليها الخروج للحد من الخسائر التي سوف تصيبها ليس في المنطقة وحسب بل على مستوى حضورها عالميًّا.