بعد صباح طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 تداعى الغرب بشيبه وشبابه الى كيان الاحتلال لإظهار الكثير من الدعم والحرص على عدم انهيار أسس الكيان بعدما أصيب بمقتل صبيحة ذاك اليوم.
لا يختلف اثنان على أن الإدارة الأميركية اليوم هي التي تتولى إدارة المعركة في قطاع غزة. ففضلًا عن الجسر الجوي المفتوح والامداد العسكري اللامتناهي، تحرص الإدارة الأميركية على إدارة الشق السياسي والدبلوماسي من الحرب لتحقيق أهدافها بأقل الخسائر والاضرار الممكنة على ما تبقى من أمن الكيان، والحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة دون تعرضها للكثير من الأذى.
لقراءة الإدارة الأميركية للعدوان لا بد من فهم تداعيات طوفان الأقصى على الوعي الصهيوني أولًا، وعلى تهديد أمن القاعدة الأميركية المتقدمة في المنطقة وما تمثله من وجهة نظر الرؤية الغربية للمنطقة والعالم.
مما لا شك فيه أن الأمن يعدّ بالنسبة للكيان هو العامل الأخير المتبقي من أسطورة حدود “إسرائيل” من النيل الى الفرات. فبعد وأد مشروع التمدد والاحتلال بفعل المسار التاريخي المقاوم في دول الطوق، تحول المشروع الغربي في المنطقة الى جعل كيان الاحتلال ضرورة اقتصادية للمنطقة وتعويض النقص الحاصل في الردع العسكري والأمني بتفعيل مسار التطبيع مع الدول العربية، الأمر الذي كان من شأنه قتل القضية الفلسطينية وسلبها مقومات الحياة والصمود السياسية ما يقلل من حضورها وأهميتها أمام المتغيرات الكبرى إقليميا ودوليًا.
المسار المذكور كان قيد الإنجاز على قدم وساق بتعاون دول عربية كبرى عملت وتعمل على انهاء القضية الفلسطينية وتعزيز الحضور الصهيوني في المنطقة من بوابة الترانزيت والاقتصاد والنفط، وتعزيز مقبوليته الجماهيرية من خلال مسارات التطبيع، لكن ما لم يكن بالحسبان أعاد خلط الأوراق وقلب الطاولة.
ما قالته عملية طوفان الأقصى في يومها الأول، أن فلسطين عادت الى واجهة الاهتمام العالمي لا العربي فقط، وأن أمن الكيان المؤقت بات مهددًا لدرجة قد يكون مستقبل الكيان واستمراره على المحك في أي فرصة مقبلة، حيث استفاق المستوطنون والجناحان الأمني والسياسي في الكيان على خبر سوريالي مفاده أن مقاتلي المقاومة يتجولون على بعد كيلومترات من غلاف غزة في عمق الكيان مخلفين مئات القتلى والأسرى من نخبة الجيش المفترض أنه قادر على حماية أمن الكيان واستمراره.
عند هذه النقطة بالتحديد أيقن الأميركيون والغرب عمومًا أن مستقبل مشروعهم في المنطقة أمام تهديد حقيقي قد يدفعه الى الانهيار والتفكك سريعًا ما يعني تهديد المصالح الغربية في المنطقة ومضاعفة أزماته أمام تمدد الشرق النامي نحو مناطق النفوذ والسيطرة. عليه كانت الإدارة الأميركية حاضرة منذ اليوم الأول ومن أعلى سلطاتها في الكيان لبحث سبل النجاة وكيفية إدارة المرحلة لإبقاء الكيان على قيد الحياة لاستمرار تنفيذ الاجندة الغربية في المنطقة.
الوحشية الإسرائيلية اليوم والتي شاهدنا بعضها في شمال قطاع غزة تمثل الوجه المتوحش للولايات المتحدة الأميركية التي وقعت على أمر إبادة الغزيين وتهجيرهم، فهي -أي الإدارة الأميركية- تقول للعالم إنها لا زالت القوة الكبرى على وجه الأرض وستقوم بكل ما أمكن القيام به لحماية مصالحها ولو تطلب الامر إبادة شعب بأكمله.
لا يغتر أحد بالتصريحات الأميركية التي تطالب الكيان بالتقليل من استهداف المدنيين تارة أو الالتزام بشرع حقوق الانسان وقوانين الحرب تارة أخرى، فضلًا عن تبرير الإبادة بعدم تمكنهم -أي الاميركيين- من التحقيق بمزاعم قتل مدنيين في غزة!
الغرب اليوم يقود حربه الأكثر وحشية ضد قضية فلسطين لإيمانه العميق أن مشروعه المتمثل بـ”إسرائيل” بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، الأمر الذي يدفعنا للقول إن استمرار القتل والابادة في قطاع غزة سيستمر وربما يتزايد من خلال العمليات العدوانية جنوب القطاع، وإن الغطاء والدعم الأميركي والغربي للكيان مستمر حتى تحقيق أهداف الحرب.
لكن هل تتوافق المصالح الأميركية الاستراتيجية مع سعي العدو لدفع خطر غزة خارج حدود فلسطين؟
يقول قائل، إن البرغماتية الأميركية في التعاطي مع هذه القضية قد لا تتفق مع الرؤية الإسرائيلية الكاملة لهذه الحرب، الولايات المتحدة الأميركية اليوم يهمها دفع الخطر الاقتصادي الصيني الآخذ بالنمو الكبير، فضلًا عن مخاض الحرب الضروس في أوكرانيا التي يبدو أنها لن تحقق إلا أهداف موسكو بعيدًا عن الرغبة الأميركية في إغراق بوتين في وحول كييف وانهاكه.
وعليه، ما هو الثمن الذي تقبل به الإدارة الأميركية كحل مؤقت في فلسطين؟ وهل هدف تهجير سكان القطاع وانهاء حالة المقاومة فيه أمر ممكن وقابل للتطبيق؟ الميدان يقول عكس ذلك وربما ستتضح الصورة أكثر بعد محاولات التقدم الإسرائيلي البري جنوب القطاع الذي سيواجه مقاومة أكثر عنفًا وشراسة مما يواجهه اليوم في الشمال، ذلك فضلًا عن حالة الصمود الأسطورية التي يسطرها شعب غزة رغم كل القتل الوحشي الذي يتعرض له!
ماذا عن الضغط الذي يمارس على المصالح الأميركية أولًا والصهيونية ثانيًا في باب المندب؟ وهل لهذا الضغط ذي الطابع الاقتصادي الاستراتيجي تأثير في قدرة الإدارة الأميركية في الايغال بقتل أهل غزة؟ ولن ننسى حالة الرعب والترقب التي يعيشها الصهاينة انطلاقًا من حدود فلسطين الشمالية، وكابوس “قوة الرضوان” التي تؤرق ليل ونهار مستوطني الكيان وقيادته السياسية والأمنية.
مع استمرار المقاومة في غزة والضفة بتوجيه الضربات للعدو بالتوازي مع صمود الشعب الفلسطيني، وتصاعد وتيرة ونوعية الاشغال الذي يمارسه محور المقاومة اتجاه الكيان والمصالح الأميركية في المنطقة وصولًا الى حافة الحرب، قد تجد الإدارة الأميركية الحالية نفسها ومع اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية، مضطرة الى القبول بحلول سياسية منخفضة الاسقف عكس ما يمني الصهاينة به أنفسهم. الأمر الذي سيفتح النقاش مستقبلًا وقريبًا عن جدوى الحرب وأهدافها، وماذا حقق الصهاينة من خلالها على المدى الاستراتيجي، وكيف سيكون شكل الجبهة الداخلية في الكيان يومها مع أزمات نتنياهو السياسي والقضائية والانقسام الحاد الذي تشهده الجبهة السياسية اليوم، فضلًا عن تنامي التهديد الأمني في الداخل وعند الحدود.. وأبعد.