مايا الخوري – الناشر |
منذ اعتراف الأمم المتحدة بـ”إسرائيل” وأعلانها كدولة في أيار 1948، والقضية الفلسطينية تحتل موقعًا هامًا في الوجدان العربي. وبين إخفاقات وتخاذل العرب وغطرسة المحتل، عانى الفلسطينيون سنوات طويلة من الحروب والدمار لاسترجاع أرضهم المحتلة. ولم يفوّت المواطن العربي، مسيحيًا كان أم مسلمًا، الفرصة لدعم القضية الفلسطينية والمطالبة باستعادة الارض المغتصبة وزوال الكيان، كما ورفضهم تهويد القدس، عاصمة فلسطين الأبدية، قبلة المسيحيين والمسلميين الذين لطالما كانت القضية الفلسطينية قضيتهم معًا، وليست كما روّجها الغرب بالبروباغاندا الإعلامية والسياسية، وانساق وراءها العرب، والتي تروّج إلى أن القضية الفلسطينية هي قضية إسلامية بحت في وجه قضية يهودية مدعومة من المسيحيين، بهدف تحويل الصراع إلى صراع ديني وحقوق توراتية، ما يحرّف القضية عن إطارها الصحيح، ألا وهو اغتصاب أرض فلسطين واستباحة دم أهلها وتشريدهم ظلمًا.
ولا يختلف المسيحيون العرب عن أشقائهم المسلمين في تأييد القضايا العربية المحقة، وخاصة قضية القدس لما لها من أهمية دينية وتاريخية بالنسبة لهم، لكن بعد أفول الحركات القومية العربية، التي كان المسيحيون أبرز روّادها، ضعف الصوت المسيحي العربي المؤيد للقضية الفلسطينية، ربما بسبب الهجرة الكثيفة التي قلّصت عدد المسيحيين في الشرق، فمنهم من فضّل الصمت على المجاهرة بموقف مؤيد للقضية الفلسطينية ومنهم من بقي مجاهرًا في تأييده لها، فأدى هذا الانقسام إلى عدم قدرة المسيحيين على بلورة موقف موحّد من القضية الفلسطينية. هذا على صعيد الشرق كَكُل، أما بالعودة إلى مسيحيي لبنان، ومواقفهم المتباينة من القضية، لعلّ أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية هي من أبرز أسباب تراجع التأييد المسيحي للقضية الفلسطينية، وربما تواطؤ بعض القادة الفلسطينيين الرسميين بمشاريع التوطين، كما ودخول الفلسطينيين بالحرب اللبنانية، وفتح لاند، وطريق القدس تمر من جونية، والسلاح الفلسطيني المتفلّت، والمخيمات التي أضحى بعضها بؤرًا أمنية يلجأ إليها الفارّون من وجه العدالة، وأحداث مخيم نهر البارد، هذا كله أضرّ بالقضية وأحقيتها في نظر المسيحيين، وجعل البعض يساوي بين بعض الفلسطينيين وأفعالهم في لبنان الذي عانى منهم تاريخيًا، وبين الفلسطيني الذي أبى أن يترك أرضه وفضّل المقاومة والاستشهاد في وطنه دفاعاً عن أرضه.
أضف إلى أن مواقف قادة وأمراء الميليشيات التي تعاملت مع “إسرائيل” خلال الحرب، صبغت المسيحيين اللبنانيين ككُل، حتى أصبح اليوم المسيحي المؤيد للقضية، كائنًا فضائيًا بالنسبة إلى المسلم اللبناني، وذمّيًا منبطحًا خارجًا عن الدين بالنسبة إلى المسيحي الآخر، فنرى تعليقات لهذا الآخر، على مواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر: “لبنان أولًا”، “لا تعنيني فلسطين”، “ماذا لديك في فلسطين” .. عدا عن الشتائم والنعت بالذمية والإنبطاح للمسيحي الداعم قلبًا وقالبًا للقضية الفلسطينية.
عندما أقرأ هذه التعليقات تتوارد إلى ذهني عدة أسئلة، أولها: هل يعتبر بعض مسيحيي لبنان أن مسيحيي سوريا وفلسطين والعراق ومصر والأردن مثلاً لا يشبهونهم، مثلما لا يشبههم شريكهم في الوطن؟ برأيي لا دخل للشبه والتشابه في هذا، إنما ما هو واضح وضوح الشمس أن هناك “مسيحي” وهناك “مدّعي المسيحية”، والفرق شاسع. فالمسيحي الحقيقي يقول الحق لأن الحق يحرّره، ويناصر المظلوم ولا يشهد زورًا ولا يدع الحقد يملأ قلبه، فليس ما يدخل إلى جسم الإنسان ينجّسه بل ما يخرج منه، لأنه نابع من القلب، هكذا علّمنا معلمنا وسيدنا يسوع المسيح. المسيحي يعلم جيدًا معنى المقاومة والاستشهاد والفداء، فسيدنا يسوع المسيح هو أول من قاوم وصُلبَ عنا، فداءً لخطايانا، أما مدّعو المسيحية يهزأون بالاستشهاد ويسألون الشهيد “فدا من استشهدت؟”.
المسيحي تعلّم من مريم العذراء معنى الصبر على الألم يوم شاهدت فلذة كبدها يُصلب أمام أعينها، أما مدّعو المسيحية يهزأون اليوم من صبر وإيمان أم الشهيد! مدّعو المسيحية، لا تعنيهم القدس، قبلة المسيحيين الأولى والوحيدة، حيث تألم ومات وقُبر وقام في اليوم الثالث، حيث القيامة التي هي أساس إيماننا المسيحي. مدّعو المسيحية هزّتهم آياصوفيا ولم تهزهم كنيسة القيامة ودير إبراهيم ودير العذراء، وكنيسة القديس توما، دير مار مرقص، دير مار يعقوب، كنيسة الجثمانية، كنيسة مريم المجدلية، كنيسة الصعود، كنيسة نياحة العذراء وكنيسة القديس بطرس! لم يستفزهم بصق الإسرائيلي عند المرور من أمام الكنيسة، وبررها، من وعدنا بأنه سيصبح مارلين مونرو، أنها تقاليد يهودية!! نفسه الذي يحرّض يوميًا على قتال أبناء بلده فقط لأنه يرى أن “الشيعي المحروم هو لبناني” أما “الشيعي القوي فهو جالية إيرانية”، بينما يدعو إلى قتال العدو بغصن الزيتون!!
مدّعو المسيحية الذين ارتكبوا المجازر بحجة “الحفاظ على الوجود المسيحي” لا تعنيهم محاولات اجتثاث الوجود المسيحي في القدس وإلغاء تاريخ هذه المدينة وحضارتها الذي يسعى المحتل لتحقيقه بانتهاج كل السبل الإجرامية. مدعو المسيحية يحاولون حرف الأنظار عن سياسيات الاحتلال التي ألقت بثقلها على الوجود المسيحي في القدس، ويسعَون جاهدين في نشر البروبغاندا الغربية لتصوير أن الصراع هو صراع مسلم – مسيحي، وأن لا خطر صهيوني على المسيحيين في لبنان. حبّذا لو يقرأوا “الأدبيات اليهودية” علّهم يدركون أن ارتياحهم هذا إزاء اليهودية يشكل خطرًا عليهم في الدرجة الأولى، لأن الصراع الحقيقي هو بين الكنيسة واليهودية أكثر مما هو بين المسيحية والإسلام. فأقلّه، الحكم الإسلامي كان يحترم المقدسات المسيحية وقيادتها الدينية على مر العصور، بدءً من عمر بن الخطاب وميثاق “العهد العمري الشهير” الذي نظم العلاقة بين الكنيسة والخلافة والذي بموجبه تم الاعتراف بالحقوق والامتيازات الخاصة لبطريرك الروم الأرثوذكس. وصلاح الدين الأيوبي الذي حرّر القدس وأرجع الأماكن المقدسة إلى بطريركية الروم الأرثوذكس، وصولًا إلى حماية المقاومة الإسلامية اللبنانية للكنائس في سوريا وتحرير الراهبات في معلولا وإعادة رفعهم للصلبان على الكنائس بعد أن تم إنزالها وتحطيمها من قِبل المجموعات الإرهابية.
أما هذه الغطرسة الصهيونية، التي يُحاول بعضكم تلميع صورتها، ما هي إلا واجهة لغطرسة يهودية واضحة تكره “المسيح شخصيًا” وخاصة بولس الرسول الذي نقض اليهودية. ورغم كل هذا، لا بد من التأكيد على أنه مهما حاولتم تقسيم فلسطين بين موسى وعيسى ومحمد، تبقى فلسطين لأهلها بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، وتبقى القضية قضية “كيان محتل وشعب يقاوم المحتل”، لا قضية حقوق السماء في مساحات عقارية.