منذُ ما يزيد عن 5 قرون، جُرّدَت بُلدانُنا من خصائص الحُكم الذاتي، واستُبعِدَت عن المعايير السيادية التي تُدير من خلالها الدُوَل كياناتها وقوميّاتها. بالتالي، لم تمتلك تلك الدول مبادرة العلاقة مع الخارج، ولا بين بعضها أيضًا. وعليه، غابت ثقافة “الأمن القومي” التي تكوّن من خلالها البلدان دائرة الحماية بشكلها العام، وتكرّس سلوكها تجاه المخاطر المحدقة مع وجود القوى الكبرى التي تسعى إلى الهيمنة على السياسة خدمةً للمشاريع التوسّعية التي تقودها من أجل السيطرة على الموارد ضمن مجال نفوذها.
بعض البلدان في منطقتنا، استطاعت إنشاء هوية قومية، خصوصًا بعد انسحاب المحتلَّين، الفرنسي والبريطاني، أواسط القرن الماضي، وتمكّنت تلك الدول من خلق كيان سيادي خاص، يتفاعل مع محيطه القومي، ويسعى إلى التكامل لبناء قوة متينة تعيق المشاريع المعادية عن تنفيذ مبتغاها الاستعماري. وبغضّ النظر عن ما جرى خلال عقود النار التي امتدّت منذ العام 1982 ولا زالت سارية حتى الآن، والخيانة التي أمعَن بها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، كما والحرب الكونية التي تعرّضت لها الدولة السورية مطلع العقد الثاني من القرن الجاري، بقيَ الحال في لبنان، الدولة، على ما هو، أقلّها منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، فلم نتدرّج في مسار الهويّة، ولا استَطَعنا تشكيل إطار سيادي يخدم فكرة الأمن القومي اللبناني، وغابت تلك الثقافة عن التداول عند الشريحة الأعظم في وطننا لبنان، بعدما ظهرت تعابيرها إبّان الحكم الشهابي وصارت تضمر بعد ذلك.
لا يختلف عاقلان عن وجود صراع هويّاتي في بلدنا، ولم يبرح النزاع القائم حول طبيعة الهوية اللبنانية ومندرجاتها عن أدبيات المجتمع اللبناني البتّة. فنحن مُبتَلون بِتَركة الاستعمار عبر شريحة عريضة تكافح من أجل المصالح الغربية، البعيدة كل البُعد عن مصلحة البلاد، في بيئة مفتوحة تشكّل لحدّ الآن مساحة تفاعلية لقوى الهيمنة العالمية ومصالحها التوسّعيّة.
لكن، ومع الصعوبات التي تحكم العلاقات المجتمعيّة في بلد تَعَدّديّ كَلُبنان، استطاع حزب الله إرساء ثقافة الأمن القومي المنشود، حيث رسّخ في الوعي اللبناني مسائل الحماية الاستراتيجيّة ومزايا التحرّر الكبرى، عبر مسار تراكمي بدأ فعليًا بعد طرد المحتل الاسرائيلي مدحورًا في العام 2000. حيث بدأ العمل على إنشاء استراتيجية الردع، التي نتمكن من خلالها بناء قوة نوعية تكافح للوصول إلى نقطة التحرّر الفعلي من نير الاستعمار الغربي، والمتمثّل مباشرة بالكيان الصهيوني الجاثم على أرضنا.
ولأنّ دول الهَيمنة تتعاطى في سياساتها معنا على أساس حزمة واحدة، لمسَ حزب الله منذ انطلاقته المفاعيل المدمّرة لمكيدة التقسيم التي طالت دول المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، وتفاعل في حركته المقاوِمة على هذا الأساس، ولو كان الإطار العملي للمقاومة اتّسَمَ بلُبنانيّتِه، لكنه لم يغفل عن طبيعة الصراع الحقيقيّة، والذي يتضمّن المطامع الاستعمارية التوسّعية في غرب آسيا، مع تثبيت قاعدة استيطانيّة متقدّمة تتمثّل في الكيان الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين.
من يتكلّم عن الحياد في صراع كهذا، هو واحد من اثنين، إما جاهلًا لا يفقه صبغة المعركة، أو عميلًا لدول الاستعمار فيعمل على تضليل الوعي العام وانتزاع تلك الهوية من عقول الناس، لكي يتسنّى لدول الهيمنة تنفيذ مشاريعها من دون عوائق. وبناءً عليه، فإن جميع شعوبنا معنيّة في مقاومة تلك المشاريع الخبيثة، وبالتالي معنيّة بشكل مباشر في الالتحاق بمشروع المقاومة، بكل أشكالها، وبالطرُق المجدية والمناسبة في سبيل التحرير والحرية.
وما جرى فجر السابع من الشهر الماضي في غزة، وما تلاه من عدوان وحشي إسرائيلي ضدّ سكان الأخيرة، لا يشذّ عن القاعدة، وهي أن جميع شعوب المنطقة معنيّة بشكل مباشر عن ما يجري هناك، وأن تجزئة المصير تعاقب فاعليها بالإبادة، على نفس المشهد الذي يحاول العدو إرساؤه في قطاع غزّة الآن.
تلقّف حزب الله هذه السردية، ومعه كافة قوى المقاومة مع اختلاف المبادرات، لكن الحزب هو المعني الأول، نظرًا للخصائص الجغرافية المشتركة مع فلسطين المحتلّة، ولأنه يتواجد في المعركة ضد الصهاينة منذ ما يزيد عن الأربعين عامًا، في معركة فاعلة لن تنتهي قبل زوال الكيان المتغطرس وعودته من حيث أتى.
وعلى قاعدة الأمن القومي نفسها، فتح حزب الله الجبهة من دون تردّد في اليوم التالي من عملية طوفان الأقصى، تحكمها وحدة المسار والمصير، وتحت راية تشبيك الجهود من أجل تحقيق الهدف الأسمى، وإزالة تلك الجرثومة السرطانية التي أصابت الجسم العربي وعاثت الخراب في كل أرجائه، فوَجَب استئصالها، لأن إبقائها يهدّد حياتنا، كشعوب، للإبادة الكليّة.
إن تأطير المعركة داخل الكيانات، من دون رؤية الهوية الحقيقية للصراع، هو مُنى الأعداء ومبتغاهم، استكمالًا لمشاريع التقسيم المحسوبة منذ قرن مضى، وبالتالي يقع على عاتقنا إبطال مفاعيل تلك المشاريع التقسيميّة وتدمير انعكاساتها، وهذا المشروع المضادّ يحتاج إلى مسار ثقافي يستهدف الوعي، ينشد إلى نشر ثقافة الأمن الجماعي الذي لا يتجزّأ، وإن حيّدنا أنفسنا عنها ستودي بنا إلى التهلكة المحتومة، فنحن أمام عدوّ لا يرحم، متمثل بالغرب الجماعي، وعليه نحن مجبورون في المواجهة الجماعيّة، أمام المخطّطات التفتيتيّة التي تحاصرنا من كل حدب. بهذا ننتصر، وبهذا نسترجع فلسطين لأهلها، ونمنع الإبادة عن أهل غزة الراسخون، وبهذا نتحرّر.