أن تكون صحافيًا أو مراسلًا على أرض المعركة فهذا يعني أنك مؤمن بالقضية ومصيرها ومجرياتها إلى حد يفوق كل الإحتمالات، إلى حد قد يصل بك لأن تقدم في سبيل مهنتك وقضيتك وإيمانك أغلى ما لديك، وأغلى ما يملكه الإنسان في وجوده هو دمه وروحه.
أن تكون إعلاميًا يبث النبأ من رحم المعركة، فهذا يعني حتمًا أنك في صفوف المجاهدين المقاومين المثابرين المضحين، تقاوم بكلمتك وصوتك وصورتك، وأنك تدفع العالم بأسره ليرى الحقيقة من عيونك وأن يسمعها بصوتك، وأنت الذي حاول العدو عبثًا أن ينال من عزيمتك وصمودك.
لم يكن صباح الواحد والعشرين من تشرين الثاني صباحًا عاديًا في تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية، وقبل كل هذا لم يكن صباحًا عاديًا من صباحات الجنوب وصباحات فلسطين، هو صباحٌ إستيقظ فيه الجنوب كالعادة على وقع نبرات “فرح” وهي تبث للعالم أخباره وإنجازاته التي سطرتها المقاومة في الساعات التي مضت، نبرات فرح التي ترددت خلف شاشة ربيع الثابتة الصامدة، وإنطلقت بكل عز وفخر لتجوب شاشات العالم.
لم نكن نعلم أن عباراتك هذه ستكون الأخيرة يا فرح، ولم نتوقع للحظة أن دمك الطاهر هذا سيعانق تراب الجنوب بهذا الحبّ، يد الغدر وآلة الإجرام الوحشي كانت تترصد ثباتك وعنفوانك ووقوفك في وجهها، وأنت التي وقفت شامخة كزيتون الأرض، على إمتداد أربعين يومًا دون كلل أو فزع أو تردد، لأن الحياة في مفهومك العميق الصادق هي وقبل كل شيء “وفقة عز” فقط.
إنضم الزميلين الصحفيين فرح عمر وربيع معماري إلى قافلة شهداء الصحافة والشهداء الذين قضوا على طريق القدس، إلتحقوا بركب من سبقهم من الصالحين الذين إرتقوا لأجل القضية ذاتها والهدف الأسمى، لأجل الأقصى وفلسطين، ليتعمّد جبين الجنوب مرة أخرى بتلك الدماء الزكية التي ستكون حتمًا شريكة النصر الأكبر.
إستهداف الطواقم الإعلامية والصحافية لم يكن جديدًا في قاموس الإجرام الصهيوني، فعلى إمتداد تاريخ الصراع معه كانت هذه الطواقم من أبرز بنوك أهدافه، حيث عمد دائمًا إلى إنتهاك حرية الصحافة وإعتدى على الصحافين أينما كانوا في لبنان أو فلسطين، وتعمد إصابتهم بالرصاص الحي والقذائف، وخلال العدوان الأخير على غزة منذ السابع من أوكتوبر الحالي، وصل عدد الشهداء الصحافيين الذين إرتقوا في لبنان وفلسطين إلى 65 شهيدًا لغاية هذه اللحظة.
لم يتمكن أي قانون دولي يحمي حرية الصحافة والإعلام من ردع العدو الصهيوني، وهو بالطبع وكما في كل حروبه السابقة، لم يأخذ بالحسبان وجود مثل هذه القوانين التي يتحتم عليه إحترامها وتطبيقها، بل على العكس، تخطاها ومارس إجرامه الوحشي بكل حقد وإنعدام للإنسانية والرحمة البشرية، وكل محاولات التنديد والإدانات الموجهة لم تردعه للحظة عن إرتكاب جرائمه.
الأمر هنا مسحوب أيضًا على المؤسسات والمنظمات الدولية التي سنّت هذه القوانين ووضعتها ضمن إطارات رسمية دولية وحتّمت على كل شعوب العالم الإلتزام بها وتنفيذها، لكنها لم تذكر يومًا أن الكيان الصهيوني الغادر يقع خارج نطاق هذه القوانين، وهذا لا يرتبط فقط بعدم وجود أي إحترام للقيم الإنسانية في مفهوم هذا العدو، بل بضعف وعجزهذه المنظمات وإنحيازها العنصري لشعوبٍ وأممٍ دون غيرها، ناسفة بذلك كل شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الإنسانية.
على أي حال، هذا العدو الغاشم أثبت عبر إستهدافه للصحافيين والمصورين أنه كيان لا يفهم بلغة القوانين والحقوق والحريات الإنسانية، وأن لغة القوة والمقاومة و”الألم” هي السبيل الوحيد لردعه وإيقاف إجرامه، وهذا الأمر لم ينطبق فقط على الطواقم الإعلامية، لأن الأبرياء من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل، كان لهم دائمًا النصيب الأوفر من القتل والتنكيل والدمار، وما تشهده غزة اليوم وجنوب لبنان يمثل الصورة الأكثر وضوحًا لإجرامه ووحشيته على إمتداد تاريخ وجوده الوهمي.
مضى الشهداء على طريق الحق والحقيقة، إلتحقوا بأسلافهم من الشهداء الأطهار بعد أن ارتوى تراب الجنوب من دمائهم، وتباركت سماؤه بطيف أرواحهم، ونحن اليوم لسنا سوى إمتداد لهم ولتضحياتهم العظيمة، وأعظم ما قد نقدمه لهذه القضية هو أن نصون مجدها وهويتها، وأن نتابع المضي في طريق الحقيقة مهما كان الثمن، وآخر الكلام يبقى أن السلام على أرواحهم الطاهرة كلمّا طلع في الجنوب فجرٌ وكلما لاحت في سمائه بشائر نصر .