لم تكن القضية الفلسطينية يومًا قضية شعب واحد فقط، أو دولة معينة أو أنها محصورة ضمن بقعة جغرافية محدّدة، هي قضية كل إنسان شريف ومؤمن بحق أخيه الإنسان في الحرية والعيش الكريم على أرضٍ يحمل هويتها في قلبه ويدافع عن وجودها بروحه ودمه.
وحدة الانتماء هذه والفطرة الإنسانية في الوقوف بوجه الظلم، تجعلنا مسؤولين إنسانيًا ودينيًا وأخلاقيًا أمام الدفاع عن هذه القضية العظيمة بشتى الوسائل الممكنة والمتاحة، ولعل أبرزها المقاطعة الاقتصادية للشركات التابعة والداعمة للعدو الصهيوني والتوقف عن شراء البضائع والخدمات الخاصة بها.
المقاطعة الاقتصادية بصفتها شكلًا من أشكال المقاومة ضد العدو، لم تكن وليدة الأحداث الأخيرة ولا السنوات القليلة الماضية، فمنذ سنين كانت حملات المقاطعة للبضائع الصهيونية تزداد وتنتشر بين أوساط العامة، إن كان عبر المنشورات الورقية أو المنتديات والحملات، والتي بدأت خاصة أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول / سبتمبر 2000– 8 شباط / فبراير 2005، مرورًا بالكثير من الأحداث والحروب التي شنها الاحتلال الغاصب، وصولًا لمعركة طوفان الأقصى التي لا زالت تخوضها المقاومة منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر.
الفوارق الأساسية بين الماضي والحاضر في سياق المقاطعة الاقتصادية عديدة، لكن تأتي في مقدمتها الوسائل التي يتم اللجوء إليها في الترويج لعملية المقاطعة، إذ بينما كانت هذه الوسائل فيما مضى تقتصر على المنشورات الورقية والندوات والمحاضرات، تكفّل رواد مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بالمهمّة على أوسع نطاق عالمي عبر تفاعلهم وبث منشوراتهم وترويجهم لكل ما يتعلق بالقضية، وقد أعادوا بذلك فعلًا النبض لحملات المقاطعة الاقتصادية.
وبالحديث عن معايير المقاطعة الاقتصادية، لا بد من التنبه إلى وجود “معايير علمية” لتطبيقها، ولا بد من الاطلاع عليها والأخذ بها عند مراقبة الشركات الواقعة تحت مجهر المقاطعة، وفي هذا السياق يذكر أحد المصادر المتعلقة بـ “حملات مقاطعة إسرائيل” أن هذه المعايير محددة بسبع نقاط أساسية، وهي: إن بنت الشركة مصانع لها في أرض جرت فيها عملية “تطهير” من الفلسطينيين أو تهجير الفلسطينيين، إن قامت هذه الشركة العالمية بشراء شركة إسرائيلية أو أسهم في شركات إسرائيلية، إن قامت الشركة بتقديم دعم مالي مباشر بشكل رسمي لجمعية إسرائيلية أو حدث فني / رياضي / ثقافي إسرائيلي، إن ساهمت الشركة مباشرة في الحرب ضد الفلسطينيين، إن رعت الشركة أنشطة فنية وثقافية ورياضية في “إسرائيل”، إن عبّرت الشركة علنًا عن دعم إسرائيل، وإن روّجت الشركة لفكر الصهيونية أو قادة الصهيونية.
تشكل هذه المعايير قاعدة موثوقة في تطبيق المقاطعة الاقتصادية الصحيحة، لا سيما في ظل تضاؤل “المنطق العقلاني” لدى المستهلك العربي في هذا الإطار، واعتماده في أغلب الأحيان على التبني الأعمى في الاختيار دون أي محاولة للقراءة النقدية في هذا المجال.
وبالانتقال إلى التأثير الذي من الممكن أن تحدثه المقاطعة الاقتصادية، فإننا نتناول هنا المعطيات التي توفرها بعض التقارير العالمية بهذا الشأن، والتي قد تعطي صورة واضحة عن مدى فعالية هذه المقاطعة. وفي هذا الإطار تشير التقارير إلى أن المقاطعة الاقتصادية قد أسهمت بشكل ملفت في انخفاض الاستثمار الأجنبي في الأراضي المحتلة، فضلًا عن انخفاض الناتج المحلي للكيان الصهيوني بنسبة 1 إلى 2% سنويًا على امتداد السنوات العشر اللاحقة وفقًا لإحدى الدراسات، بينما يكشف تقرير للبنك الدولي أن صادرات الكيان الصهيوني إلى الاقتصاد الفلسطيني انخفضت بنسبة 24 في المئة في الربع الأول من عام 2015.
أما فيما يتعلق بانخفاض نسبة الاستثمارات في كيان الاحتلال، فقد بدا ذلك واضحًا من خلال هروب الشركات وامتناعها عن الاستثمار داخل فلسطين المحتلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، شركة “فيوليا ” الفرنسية التي انسحبت بالكامل من المستوطنات بعد أن كلفتها المقاطعة مليارات الدولارات من العقود المفقودة، كما وقد أعلنت شركات عالمية كبرى، بما في ذلك Orange وG4S وUnilever عن خطوات “لإنهاء مشاركتها في جرائم “إسرائيل””.
ومن زاوية مجتمعية، فإن فعالية المقاطعة في الوسط الاجتماعي تشترط في بادئ الأمر تحديد الشركة المستهدفة، وحجم الدعم المقدم من قبلها للعدو الصهيوني، كما يعتمد الأمر أيضًا على تحقيق ديمومة المقاطعة، لأن الرأي العام يلتزم عادة لفترة زمنية محددة، ومن بعدها تكون الناس قد نسيت الأمر فعليًا، بالإضافة إلى ضرورة تحلي الرأي العام ولا سيما العربي، بالوعي والدقة في تقصي المعلومات حول الشركات الداعمة للعدو الصهيوني لتحديد الوجهة الصحيحة في عملية المقاطعة.
فلسطين الحرّة رغم الاحتلال والحصار والإجرام والدمار، تقدم للعالم اليوم وككل مرة سبقت، دروسًا في الدفاع المقدس عن الحرية الفطرية التي خلقها الله فينا، وترسم عبر انتفاضة الدم، طريق الحرية لأقدس المقدسات، للمسجد الأقصى، ونحن أبناء هذه الأمة أقل ما يمكن أن نقدمه في طريق المقاومة هو المقاطعة الحقيقية القادرة على ضرب العدو المتوحش بكل ما استطعنا إليه سبيلًا.