مفهومٌ لدينا أنَّ أمريكا، عدوّة الشعوب ورمز الاستكبار في العالم، لم تدع زاوية من زوايا الأرض لم تمارس فيها هيمنة وسطوًا وقهرًا وعتوًّا وظلمًا للفقراء والمستضعفين. نعرفُ أنَّ الصهيونية وكيانها اللقيط في فلسطين يمارس الاحتلال والقتل الجماعي للبشر والحجر ولم يترك بيتًا من بيوتنا في العالم العربي لم يُدخل إليه الحزن والقهر والألم والدموع.
قد نتفهّم أن يكرهنا الغرب كرهًا عميقًا وأن يكيدَ لنا المكائد وأن يضمر لنا العداء والبغضاء لاستطاعتنا أن نخرجه من شرقنا وإزالة احتلاله وانتدابه لبلادنا بسواعد الأحرار الشرفاء من أبناء أمَّتنا وإحباطنا لمشاريعه الإمبريالية والتوسُّعية، ولكن ما لا نفهمه أن يقوم من هم من أبناء جلدتنا من أنظمةٍ عربية وحكوماتها بكل هذه الممارسات أعلاه في خنقٍ لروح المقاومة لدى شعوب أمتنا وأن تكون هذه الأنظمة سائرة في ركاب مشاريع الصهيونية والهيمنة الغربية على المنطقة، وأن تمارس الظلم والقهر لشعوبها واعتقال من يعلو صوته استنكارا وتنديدًا بالقتل والعدوان أو من تسوِّل له نفسه أن يقدِّم الدعم للشعب الفلسطيني المظلوم.
حين سار قطار اتفاقيات الإذعان في العام 1978 وباكورتها اتفاقية كامب دايفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء العدو الصهيوني مناحيم بيغن برعاية أمريكية، وتبعتها اتفاقيات إضافية حيث كانت اتفاق السابع عشر من أيار من العام 1983 مع لبنان على إثر الاجتياح الصهيوني في العام 1982 وأسقطته بنادق المقاومين ودماء شهدائهم، وتتالت بعد سنوات باتفاقية “أوسلو” المخزية في العام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني وبعدها اتفاقية “وادي عربة” الذليلة في العام 1994 بين نظام الأردن والكيان الغاصب، وكلها اتفاقيات فيها الكثير من البنود المتعلقة بالتنسيق الأمني والاستخباري وتبادل المعلومات والأدوار وتنفيذ المهام المشتركة في وجه أي جهة تنحو منحى المقاومة والمواجهة مع العدو الصهيوني.
أُخرجت مصر من الصراع وتحوَّلت من قطب رحى المواجهة العربية مع الكيان الغاصب إلى صديقٍ إن لم نقُلْ أكثر ومنسِّق في كافة الشؤون الأمنية والعسكرية وتحديدًا بموضوع المقاومة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، كما وأضحت شريكًا فاعلًا وموجعًا في حصار هذه المقاومة ومنع دعمها ومؤازرتها. والشواهد كثيرة من حصار لقطاع غزة وإقفال المعابر ومنع عبور أشخاص محددين وفقًا لطلبات أجهزة أمن العدو الصهيوني وصولًا إلى إقامة جدارٍ فاصل بين القطاع وسيناء مترافقًا مع إغراق الأنفاق على الحدود مع القطاع بالماء لمنع إدخال حاجات الناس ووسائل الدعم للمقاومة في غزة مما أدّى إلى سقوط شهداء وجرحى ومفقودين نتيجة هذه الأعمال، ناهيك عن اعتقال من تسوّل له نفسه تقديم الدعم والإسناد أو محاولة إدخال عتاد أو ذخائر أو سلاح. وما زالت في الذاكرة والوجدان العربي والفلسطيني على وجه الخصوص القضية التي عرفت في مصر في العام 2009م بقضية “خلية حزب الله” حين لُفِّقت لهذه الخلية تُهم باطلة تتعلق بالإرهاب وأخرى سخيفة ووضيعة حول المشاركة في زعزعة الأمن الداخلي ونشر التشيُّع في مصر، هذه الخلية لم تكن لديها إلا مهمّة واحدة ألا وهي دعم الفصائل المقاومة في قطاع غزة، وقد اعتقل على إثرها “سامي شهاب” المسؤول عن عمليات إدخال السلاح والذخائر إلى القطاع وحكم عليه مع آخرين (26 شخصًا لبنانيين وفلسطينيين وسودانيين ومصريين) من قبل القضاء المصري بـالسجن 15 عامًا بعد عملٍ مضنٍ ولسنوات في هذا المجال رأينا نتائجه في المواجهات السابقة للقطاع مع العدوان ونراها الآن في صمود فصائل المقاومة هناك وتطور قدراتها وإمكانياتها الصاروخية والميدانية على حدٍّ سواء، وتشاءُ الأقدار أن يفلت “سامي شهاب” من ذاك الاعتقال في العام 2011 على إثر ما سمّي بــ “الربيع العربي” في مصر وانفلات الأوضاع الأمنية وسقوط نظام حسني مبارك في حينها.
أمّا اتفاقية أوسلو المشؤومة والتي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الإسرائيلي في العام 1993م، فقد سحقها هذا العدو الغاشم عند أول فرصة سنحت له للانقلاب والدوسِ عليها، وحوصر الرئيس ياسر عرفات في مبنى المقاطعة (مركز السلطة الوطنية) إبَّان الانتفاضة الثانية في العام 2002 وبقي محاصرًا حتى العام 2004م، حتى قضى غيلةً مسمومًا وفق بعض التقارير في نهاية ذاك العام بعد سنتين من الحصار القاسي.
خَلَفَ الرئيس الراحل ياسر عرفات على رأس السلطة منظومة فاسدة يتقدّمهم المدعو “محمود عبَّاس”، سلطة سارت في ركاب المحتل وتجذَرت في العلاقة والتنسيق الأمني معه بوجه المقاومة في أراضي ما يسمى بالسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبلغ هذا التنسيق ذروته في إحباط كل عملٍ مقاوم بل والمشاركة في مطاردة المقاومين واعتقالهم وتصفية الكثيرين منهم ولائحة الشهداء والمعتقلين تطول، وما زالت هذه السياسة الأمنية متبعة حتى اليوم بل وتزداد يومًا بعد يوم حدَّةً وقساوةً.
في “وادي عربة” وقِّعت واحدةٌ من اتفاقيات الإذعان للعدو الإسرائيلي والتي كان أثرُها شديد المرارة والألم على الشعب الأردني لما تضمنته من خضوعٍ لإملاءات العدو الصهيوني وحاجاته الأمنية والاقتصادية تحت عنوان تحقيق السلام المنشود، والقاريء لهذه الاتفاقية يجد بوضوح البنود الملزمة بالتنسيق الأمني لمنع بل وقمع أي محاولة من قبل الشعب الأردني المتعاطف مع فلسطين وقضيتها. ووفق البند الثاني من الاتفاقية في “النقطة السادسة” منها تؤكِّدُ على “أن تحركات السكان القسرية ضمن مناطق نفوذهما بشكل قد يؤثر سلبًا على الطرف الآخر ينبغي ألا يسمح بها”. وتضيف الاتفاقية في “المادة الرابعة “منها والمتعلقة بالأمن أن “يتعهّد الأردن كما الطرف الآخر بمنع تنظيم الأعمال العدائية أو التحريض ومنع التهديدات بالعداء أو المعاداة والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب”. طبعًا الهدف هو المقاومة أولًا، “واتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع وجود جهة أو منظمة على أراضيها تهدد أمن الطرف الآخر، إلى جانب مكافحة التسلُّل عبر الحدود”.
اليوم تخوض غزّة وكلَّ فلسطين معركة حاسمة ومصيرية مع العدو الصهيوني تُرسمُ فيها ملامح مستقبل هذا الصراع وديمومته وبقاء قضية فلسطين المحتلة وتحريرها حيّةً في وجدان الأمَّة والشعوب والأجيال القادمة، هذه المعركة تلقي بظلالها القاتمة أيضًا على وجودية الكيان بعد سلسلة الضربات الموجعة التي نزلت عليه كالصواعق من عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول إلى المواجهات اليومية اللاحقة على الحافة الأمامية للجبهة في جنوب لبنان صبيحة اليوم التالي نصرةً للقطاع وأهله ومقاومته حيث قدمت المقاومة الإسلامية في لبنان عشرات الشهداء “على طريق القدس” وكبَّدت العدو الإسرائيلي العديد من الخسائر في العتاد والآليات والأرواح، تبعها دخول المقاومة الإسلامية في العراق والجيش واللجان الشعبية في اليمن العزيز في فتح جبهات المساندة لفلسطين، وعبرت صواريخهم وطائراتهم المُسيَّرة الصحارى والبحار لتدكَّ قواعد العدوان الصهيوني والاحتلال الأمريكي في المنطقة من باب المندب وعبر البحر الأحمر إلى “إيلات” جنوب فلسطين وعلى شواطئ البحر الميِّت في شرقها مرورًا بقاعدة “عين الأسد” غربي العراق، وقواعده قرب “مطار أربيل” في شماله، وقاعدتي “تل البيدر” شمال سوريا و”التنف” في جنوبها، والعينُ على أهدافٍ أخرى بعيدة كجزءٍ مساند في مواجهة العدوان الذي تقوده أمريكا بشكل مباشر في إطار تحالف دولي غربي ورجعيٌّ عربي ولو أنَّه غير معلن ولكن ملامحه واضحة الأطراف وبيِّنة من خلال حشد الأساطيل وحاملات الطائرات والبوارج والمدمِّرات وآلاف الجنود ومئات الطائرات والدعم اللوجستي لهذا العدوان الغاشم إن بمشاركة مباشرة في الأعمال الحربية العدوانية أم بنقل الذخائر والمساعدات المختلفة أو بالمواقف والقرارات التآمرية التي تدين المقاومة وتشجع للقضاء عليها.
رئيس حكومة العدو بنيامين نتانياهو يقود معركته الشخصية في قطاع غزّة ومن معه من حكومة الزبانية المتطرفين وعصابة العسكريين المجرمين وهو يعلم علم اليقين أنه أيًّا تكن نتائج العدوان فهو قد انتهى سياسيًا ومصيره السجن كسابقيه من الفاسدين والمفسدين في ذاك الكيان اللقيط، وكذلك رؤساء وملوك وأمراء دول الإذعان والتطبيع والخيانة أيضًا يقودون معاركهم الشخصية والوجودية لحكمهم وكُرمى الحفاظ على كراسيهم وهم يعلمون جيدًا أن تداعيات ونتائج هذا العدوان ستكون قاسية ومريرة عليهم وستهزُّ أنظمتهم وعروشهم.
أكثرهم خيفةً من النتائج والتداعيات هي تلك الأنظمة الهشَّة والمتقلقلة ثالوث الاستسلام الجاثم والمطبق على صدر المقاومة وأهلها في فلسطين إن في مصر أو الأردن أو تلك السلطة المتهالكة والمتخاذلة في رام الله، الَّذين جميعهم لعبوا دورًا في الحصار والتجويع والقمع والتنكيل وقتل وقهر الفلسطينيين والتآمر عليهم من خلال إطالة أمدِ الحرب الظالمة أو بالمشاركة الفعلية فيها دعمًا وتمويلًا وتذخيرًا، وهذا الثالوث الخانع سيكون أكثر عرضة لمتغيرات قد تكون دراماتيكية على مستوى تركيبتها وصورتها الحالية لأسباب متعددة خاصة بوجود تركيبتها الداخلية المجتمعيَّة “السياسية والدينية” وارتباط شعوبها العضوي والوجداني بالقضية الفلسطينية، والحتمية التاريخية تؤكِّدُ أنَّها فقط مسألة وقت لا أكثر.
المتصفِّح في الوجوه الكالحة للمشاركين في اجتماعات عمّان الأخيرة التي عقدت بين وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” ومجموعة من وزراء خارجية بعض الدول العربية يعلمُ حجم المؤامرة المشتركة. قد نفهم مشاركة دول الطوق المتآمر والمحاصِر ولكن ما مبرر أن تُشارِك دول بعيدة جغرافيًّا عن فلسطين إلا أنها واحدة من الحلقات المترابطة في سلسلة التآمر عليها وعلى شعبها ومقاومتها وخاصة أن جميع الحاضرين في اللقاء هم ما بين موقِّعٍ على استسلام مُذِلّ وليس سلامًا مع العدو الصهيوني أو مطبِّعًا ومتهاويًا في أحضانه ومقيَّدًا معه باتفاقيات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وما خفي منها أعظم وأخطر.
تبيَّنَ أنَّ معاهدات الإذعان والاستسلام تمنحك العضوية في جيش الدفاع عن الكيان المؤقّت فتمنع تسلُّل المقاومين، تعتقلهم وتنكِّل بهم وتصفّي جسديًا الأكثر خطورةً وتأثيرًا بينهم، وتقفل المعابر والجسور وتمنع مرور المساعدات الإنسانية والطبية وخروج الجرحى والمرضى المحاصرين كما وتتصدّى للصواريخ العابرة والطائرات المسيّرة التي تستهدف قواعد العدو العسكرية وتتلقّاها بصدرِك وتقوم بإسقاطها، أمّا جماعة التطبيع واتفاقيات أبراهام فقد منحوا العضوية في تحالف الإجرام والعدوان على الشعب الفلسطيني وأعطوا مذلّة المشاركة في قتلِ أطفاله.