عن خطاب السيدّ المسؤول.. وطقوس النقدّ القبلي للمشككين والمعارضين

د. علي دربج – خاص الناشر |

قد لا تبدو مفاجئة لنا كمية وشعبوية وديماغوجية وهزالة وهشاشة التحليلات الدونكيشوتية للكثير من الكتاب والصحفيين والمراسلين والاكاديميين والنخب اللبنانية والعربية، خصوصًا المطبعين منهم، حتى من يسمون انفسهم مقربين من محور المقاومة، الذين أطلقوا العنان لمخيلاتهم العامرة بأفلام الاكشن، ووجهوا سهام النقد وصولًا الى السخرية لما وصوفوه بـ”ضعف كلمة الامين السيد حسن نصر الله” وعدم قوله أي جديد، فيما يتعلق بالحرب على غزة.

فما كانوا ينتظرونه، هو أن يعلن السيّد الحرب الكبرى مثلًا، تلك العبارة التي استسهلوا رميها طيلة الايام الماضية، وكأن الأمر لعبة بابجي، لطالما أتقنوا ممارستها في مكاتبهم ومنازلهم وسهراتهم العائلية والخاصة، وحاليًّا يريدون نقلها الى أرض الواقع.

في البداية، لا احد ينكر على أي انسان حرية رأيه، وهذا حق مقدس نحترمه ونحرص عليه، كما نفعل مع أنفسنا. لكن من المعروف، أن الف باء الكتابة الصحفية، أو حتى عند القيام بالحكم أو تفنيد كلام أو خطابات الآخرين، يوجب على الشخص أن يتحلى أولًا وأخيرًا بالموضوعية، وأن يعمد الى الاحاطة الشاملة بالموضوع او القضية التي يقاربها، ليحافظ اقله على مهنيته، هذا ان كان يفقه مصطلحاتها، لا ان يفرغ علينا احقاده المذهبية والطائفية والثأرية كما لو اننا نعيش في مجتمع قبلي بحت.

من هنا، فما عاينّاه امس، بعد انتهاء الكلمة مباشرة، كان أشبه بطقوس القبائل البدائية – قرأنا عنها في الاساطير والروايات والقصص التاريخية او شاهدناها في الأفلام الوثائقية – التي يبدأ افرادها باشعال النيران والدوران حولها، وهم يصدرون اصواتًا لا نعرف إن كانت تعبر عن جزعهم او خوفهم من خطر قادم، او ربما انهم متحمسون لأمر ما، غير مدركين لما يدور حول البقعة الجغرافية القابعين فيها، تمامًا كما فعل عندما خرج علينا المزايدون والمنتقدون والمشككون والمتهكمون، ليدلوا بدلوهم الأجوف الخالي من ماء العلم والمعرفة.

وبعيدًا عن نظريات وكتابات وجعجعات الرؤوس الحامية والمشتعلة او المتصحرة فكريًّا، فالمقاومة الاسلامية في لبنان لم تكن، يومًا، حالة عشوائية تسير وفق الاجندات الخارجية او المحلية المذهبية، او انها تستجيب لاهواء البعض، ودعواتهم الحماسية -خصوصا الصادقة منها- بل على الدوام كانت، ومنذ الطلقة الاولى في مسيرتها الجهادية، نموذجًا جمع بين العقلانية والتعاطي الحكيم، والقراءة الواعية الشاملة والمدركة لابعاد وتداعيات كل عمل قامت، او ستقوم به، وذلك بإجماع الأصدقاء والخصوم على حد سواء.

لذا، لا تحتاج المقاومة في لبنان الى شهادة حسن سلوك من احد، كما انها لا تخضع لمنطق فحص دم الوفاء -بل هي من يجري الفحوصات للآخرين- والالتزام بفلسطين كقضية، التي تعد في صلب عقيدتها الدينية كواجب لطالما حكم حركتها، فلم تنحرف عنها، او تقدمّ اي اولوية عليها بالرغم من بعض الظروف التي مرتّ بها كحرب سوريا مثلًا، وهجمة داعش على المنطقة.

المخزي ان ما رأيناه من كتابات، وتعليقات وردود على فحوى خطاب السيّد، من قبل البعض، كان يشبه اي شيء الا المنطق الانساني العلمي. والطامة الكبرى انها عرّت ثقافتهم، وكشفت مدى اضمحلال المستوى المعرفي لديهم. وحتى لا يفسر كلامنا على انه تجنٍّ او مجرد اتهام اليكم الدليل:

أولًا: إن تدخل حزب الله، وفعالية دعمه للمقاومة الفلسطينية، انعكسا قلقًا وهلعًا، عند قادة ومخططي الحرب الأمريكيين. فبعد اللحظة الأولى لإشعال الجيش النازي الصهيوني نار محرقته الدائرة في غزة، لم تفارق عبارات التحذير والتهديد من تصعيد حزب الله لهجماته على المواقع الإسرائيلية على طول الحدود الشمالية، او انخراطه بشكل كلي في الحرب الى جانب حماس، شفاه رئيس اكبر إمبراطورية عسكرية في العالم ونعني به الرئيس جو بايدن، وكذلك جميع اركان حربه، ومسؤولي ادارته المدنيين والعسكريين منهم.

وعليه، لو كانت مشاركة الحزب، عديمة الفائد كما يزعمون كذبًا وتضليلًا، هل كنا سنسمع هذه الأصوات والاستنفار الامريكي غير المسبوق ضد حزب لبناني صغير مقارنة بالغرب؟

ثانيًا: في الوقت الذي تعجز غالبية الانظمة العربية فيه عن اخراج جريح غزاوي للعلاج في مصر، هل يعي المتشدقون معنى ان حزب الله وحده، اجتذب ثلث “الجيش” الإسرائيلي إلى الحدود مع لبنان وجزء كبير من هذه القوات هو من النخبة؟

بشكل اوضح، تل ابيب اضطرت الى سحب مئات الدبابات والمركبات، والمسيرات والطائرات المروحية والحربية، ومعها الاف الجنود وعتادهم العسكري الحربي الفائق التطور، من منطقة غزة، ونقلتهم الى الحدود الشمالية لدرء خطر حزب الله. ولنتخيل مدى الضغط الذي كانت ستشكله على القطاع والشعب الفلسطيني في غزة عمومًا، لو بقيت هذه القوات هناك.

ثالثًا: ان مجيء الاساطيل والمدمرات الأمريكية الى المنطقة، انما كان الهدف منه، إضافة الى دعم ورفع معنويات الكيان المهزوم، محاولة صدّ وردع عمليات حزب الله وترهيبه.

رابعًا: كان الأجدى بمن يأخذون على السيدّ انه لم يساند جبهة غزة كما يجب، عدم التنظير من وراء شاشات هواتفهم المحمولة، او الاكتفاء بالظهور على الفضائيات واطلاق الاحاجي والطلاسم، بل الذهاب الى الخط الامامي المحاذي للحدود الفلسطينية، ليشاهدوا بأم العين، ان ما يحصل هناك هو ساحة حرب مفتوحة يوميًّا بكل معنى الكلمة، وهي لا تقل شراسة وضراوة عن المواجهات التي يخوضها المقاومون في غزة. والاكثر اهمية، في غزة قد تساعد الانفاق عناصر المقاومة، على الضرب وسرعة التخفي، اما الجبهة الجنوبية، فهي مكشوفة خصوصًا المنطقة المحاذية مباشرة للشريط الشائك، الامر الذي يضطر المقاوم الى الرمي مباشرة من هناك، على تجمع للجنود او دبابة للعدو، بمدفع او صاروخ، وغالبا ما يكون بوضعية الاستشهاد، لأن الميدان مفتوح امام العدو اولًا، وبالتالي يصعب على الرامي الانسحاب والاختباء بسهولة ثانيًا، وذلك نتيجة قيام الاحتلال بنشر أسطول جوي من أحدث الطائرات المسيرة في العالم -وربما بمشاركة امريكية واطلسية- فضلًا عن مئات الأقمار الاصطناعية التي تؤازرها وترصد حتى الشعرة في رأس المقاوم.

خامسًا: ان عدد شهداء حزب الله الذين ارتقوا في اثناء مواجهتهم الاحتلال في الشريط الحدودي، ربما يساوي عدد نظرائهم في غزة، ممن استشهدوا حصرًا -حتى الان- اثناء الالتحام مع جنود الاحتلال، وليس في عمليات اغتيال او ما شابهها.

في المحصلة، ان السيّد، ليس قائدًا عسكريًّا فحسب، بل الاهم انه يجمع ايضًا صفة المسؤولية الي يفتقدها كثُر في عالمنا، فخطابه كان على قدر خطورة وتحديات المرحلة، وهو حمل رسائل نارية ذات ابعاد استراتيجية، إضافة الى انه وضع بتأنٍّ وهدوء وروية النقاط على الحروب، وابتعد عن السجالات، رغم ما يعتريه من مرارة بسبب التواطؤ والخذلان العربي. يكفي انه هدّد – من حيث لا يجرؤ احد في العالم – الاساطيل الامريكيه التي ترتجف لرؤيتها الكثير من الانظمة والحكام في الكرة الأرضية.

على طريق القدس قدمّ حزب الله أكثر من 50 شهيدًا، ومثلهم من الجرحى او اكثر، وهجرت مناطق جنوبية بأكملها، وترك اهلها وراءهم شقاء عمرهم من منازل وارزاق. وما لم يقله السيّد سنسمح لأنفسنا بقوله: نحن شركاء غزة بالدم والحجر والبشر، اما انتم ايها المنتقدون المتاجرون بفلسطين وآلامها، اخبرونا ماذا قدمتم ومعكم الملايين الملايين من المحيط الى الخليج؟

  • باحث واستاذ جامعي
اساسيالسيد نصر اللهحسن نصر اللهطوفان الاقصىغزةفلسطين