على الحافَّة الأمامية.. حربٌ حقيقية تجري

تخوضُ المقاومة الإسلامية في لبنان مواجهات ضارية على طول خطِّ الجبهة في الجنوب اللبناني من رأس الناقورة وحتى تخوم تلال شبعا وكفرشوبا المحتلتين في ظروفٍ قاسية دقيقة مليئة بالصعوبات والتعقيدات، يختلط فيها الحشد العسكري والمدرّع والتفوق التكنولوجي المعادي في مقابل الجهد البشري الممزوج بالإيمان والتوفيق الإلهي وإرادة الإنسان وروح الاستشهاد فيه.

يظنُّ البعض ممن يجلس في القراني والزوايا من قُرّاءِ الصُّحُفِ والمنظِّرين على حوافي المقاهي أنَّ ما يجري في الجنوب اللبناني هو مجرد مناوشات ورمايات متقطعة وأعمال حربية تلقى ردودًا بالمقابل عليها، في الوقت الذي يعرف فيه أهل الدراية والخبرة والقتال في الميدان أن هناك تدور حربٌ حقيقية بكل ما للكلمة من معنى وفيها من العقول الباردة والاستثنائية لدى المقاومة في إدارة المواجهة مقابل قوة متوحشة عدوّة تستخدم كل ما لديها من إمكانيات وتفوّق على المستويات كافة تسليحيًا وبشريًا وتكنولوجيًّا مدعومة من أمريكا والغرب ويسخِّرها لخدمة معركته وتحقيق أهدافها والتي على رأسها كسر إرادة المقاومة وشعبها وإحباطها وتكبيدها خسائر في الأرواح والعتاد.
لطالما سخّرت أمريكا والغرب في دعم هذا الكيان الغاصب كل مقدراتها اللوجستية والفنية والتكنولوجية والبشرية عند اللزوم ووضعت في خدمتها وتحت تصرُّفها أحدث الأسلحة تطورًا وقدرة على التدمير والفتك مما أعطى هذا العدو فارقًا وتفوقًا على كل جيوش الدول العربية في كافة حروبه السابقة التي خاضها ضدها واعتداءاته التي مارسها بحق شعوبها واحتلاله لأراضيها. ولطالما كانت الترسانة الأمريكية والغربية واحدة من الخزائن الخلفية لهذا العدو يغرف منها ما يشاء وساعة يشاء، وتُنصَب له الجسور الجوية والقوافل البحرية لمدّه بالعتاد والذخائر والسلاح ونقلها مباشرة إلى ساحة الميدان. والأمثلة كثيرة وواضحة في هذا الشأن حاضرًا وماضيًا.

في العام 1973 خلال حرب تشرين التحريرية على الجبهة المصرية والسورية وحين شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بالخطر الوجودي يتهدّد الكيان الغاصب والتداعيات الخطيرة على الجبهات والهزائم والخسائر الفادحة التي مني بها “الجيش الإسرائيلي”، قامت بإعلان الاستعداد الدفاعي (رقم 3) بما فيه الأسلحة النووية وأرسلت سفنًا حربية محمّلةً بالسلاح والعتاد والذخائر إلى “إسرائيل”. وعلى ذمَّة الرواة يقال بأنَّ الدبابات الأميركية التي استخدمها “الجيش الإسرائيلي” في المعركة ووقعت في أسر الجيش المصري في تلك الحرب كانت جديدة وغير مستعملة من قبل لدرجة أن عدَّادات السير الخاصة بها كانت تقارب الصفر كيلومتر في دلالة على مدى حرص أمريكا على نجدة العدو وسرعة استجابتها لمدِّه بالمدرعات والآليات تعويضًا لخسائره.

اليوم وعلى جبهة جنوب لبنان تبرز تلك المؤازرة والدعم لهذا الكيان والحرص على تزويده باللازم من الإمكانيات والدعم التسليحي والتكنولوجي وتظهر في تعويض النقص الذي يعاني منه العدو الإسرائيلي بعد سلسلة الضربات الموجعة التي تعرّض لها من قبل المقاومة. وقد أضاء موقع “إسرائيل هيوم” العبري على معلومات حصل عليها “أنَّ حزب الله حقق إنجازات متراكمة على الحدود مع لبنان، منذ بدء هجماته على المستوطنات، وهذا ما قد يشكل صعوبة كبيرة للجيش الإسرائيلي في تنفيذ عمل في الجبهة الشمالية”.

وبحسب الموقع المذكور، فإن “حزب الله” صرّح عدة مرات أن هدفه “تعمية قدرات “إسرائيل” على الحدود”، وقد نجح بالفعل في إلحاق الضرر بالعديد من نقاط المراقبة والكاميرات، ويبدو من مقاطع الفيديو التي نشرت في وسائل الإعلام العربية عن الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية “القيام بمحاولات ليست قليلة لتعطيل الكاميرات وأجهزة المراقبة التابعة للجيش الاسرائيلي على الحدود”. كما تم استهداف المعدات الإلكترونية والتجسُّسية التي نشرها العدو على طول الجبهة اللبنانية والتي أظهرت حجم الاستطلاع والاستشعار عن بعد والتنصت والمراقبة والتجسس بمختلف أبعاده وأنواعه لدرجة أن الناظر إلى هذه المواقع لا يراها مواقع عسكرية بقدر ما يرى فيها أبراجًا وأعمدة ضخمة وشاهقة الارتفاع رُفعت عليها تجهيزات متنوعة عديدة من الأجهزة الإلكترونية والصحون اللاقطة والتي وفقًا لبعض الخبراء يصل مدى استطلاعها وقدراتها التجسسية إلى الحدود التركية مع سوريا شمالًا وإلى تخوم إيران شرقًا مع تغطية شاملة وكاملة للبنان وسوريا والعراق.

أمام الواقع الميداني المستجد في جنوب لبنان دخل الأمريكيون مباشرة على خط تعويض هذا العمى الجزئي الذي أصاب قدرات العدو في المتابعة والرصد والمراقبة والتجسس على جبهة جنوب لبنان باستقدام الطائرات المسيرة عن بعد ” إم كيو-1 بريداتور Predator” و” ريبر Reaper ” المجهزة بالصواريخ الفائقة الدقّة لضرب أهدافٍ ارضية بشرية أو مادية، مع استخدام قمر صناعي تجسسي يرابط فوق المنطقة مضافًا إليها طلعات مكوكية على مدار الساعة لطائرات التجسس من طراز “أواكس” وغيرها في أجواء البحر المتوسط، ناهيك عما قدّمته من ذخائر نوعية واستثنائية ذات قدرات في اختراق التحصينات والتسبب بتدميرٍ واسع للنقطة المستهدفة مع مشاركة ميدانية مباشرة لا لبس فيها في العدوان والإغارة على قطاع غزّة.

لقد شُكِّلت غُرف العمليات المشتركة وحضر جنرالات أمريكيون جنبًا إلى جنب مع جنرالات العدو ووضعت خطط العمليات والاستهداف بإشراف وتوجيه أمريكي مباشر، مع الاستفادة مما لدى هؤلاء الجنرالات من صلاحية إعطاء الأوامر وطلب الدعم العسكري بكل أشكاله واستخدام القدرات المختلفة وتشغيلها وفقًا للحاجة والتي جاءت بها الأساطيل الغربية إلى البحر المتوسط أو ما تختزنه القواعد الأمريكية المنتشرة في العراق وسوريا والخليج.

في هذه الظروف المعقّدة عملت المقاومة الإسلامية في لبنان منذ اتخاذ القرار بفتح المواجهة مع العدو الإسرائيلي على الحافة الجنوبية الأمامية، عملت بروحٍ استشهادية متوثّبةً للمواجهة ومترافقةً مع الكفاءة والحرفية العالية وتراكم التجربة المكتسبة في عمليات المقاومة النوعية إبَّان الاحتلال لجنوب لبنان منذ العام 1982 وحتى التحرير في العام 2000 وما تخللها من اعتداءات وحروب في عامي 1993 و1996 وصولًا إلى عدوان تموز وآب من العام 2006، وزادها زخمًا وتطورًا مواجهة التكفيريين في سوريا والعراق وعلى السلسلة الشرقية لجبال لبنان.

والجدير ذكره أنَّ المقاومة الإسلامية في لبنان لم تزجَّ في المعركة حتى الآن كافة تشكيلاتها المقاتلة والتي كما هو معلوم عديدة ومتنوِّعة وما خفي منها أعظم، وأنَّ المشاغلة والمواجهة والاشتباك والاستهداف على خطِّ جبهةٍ تقارب الـ 80 كلم ومن النقطة صفر، مقتصرةً على تشكيلٍ وجزءًا من تشكيلٍ آخر وهما السلاح “المضاد للدروع” والبعض من قطع المدفعية والصواريخ القصيرة المدى تؤازرهم مجموعات قليلة من قوات المشاة والقنَّاصة وفق احتياجات الجبهة. وهذه القوة المحدودة حتى الآن استطاعت أن تكبّد العدو الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد والآليات وفق اعترافه والأهم تدمير تجهيزاته الإلكترونية والتجسُّسيَّة بنسبة عالية.

وبرز في هذا السياق القدرات الاستثنائية لدى شباب ومقاتلي وطواقم السلاح “المضاد للدروع” الذين أظهروا بسالة وجرأة وشجاعة نادرة واستثنائية وفي ميدانٍ مكشوف باستهداف الدبابات والآليات والتحصينات والمواقع والتجهيزات الإلكترونية وتدميرها وقتل الجنود الإسرائيليين على طول الجبهة وفي عمقها، وشهِد العالم كلَّ ذلك بالصوت والصورة، كما التسبُّب بتهجير عشرات الآلاف من المستوطنين وإخلاء الشمال الفلسطيني من المستوطنات (قرابة 63 مستوطنة) حتى عمق يراوح ما بين 9 و12 كلم وفق بعض التقارير، حيث تحولت المنطقة الشمالية بمجملها إلى مدن أشباح بالكاد ترى فيها مستوطنًا يطلُّ برأسه من فتحة بابه وقد كانت المقاومة حريصة على عدم استهداف “المدنيين” وفي إطار الضوابط ومن ضمن توجيهات القيادة حتى لا يشكِّل ذلك ذريعةً للعدو لاستهداف المدنيين من سكان قرانا وبلداتنا المحاذية للحدود مع فلسطين، هذه المستوطنات التي حاليًا تعجُّ بالجنود المذعورين والآليات المدرعة التي تتلطى خفيةً خلف البيوت وتحت الشرفات وفي المنخفضات والأحراش بعيدًا عن أعين القناصة من أبطال الكورنيت والأسلحة المباشرة الذين ترفع لهم القُبَّعة وتنحني لهم الهامات احتراما لكفاءتهم وحرفيتهم وشجاعتهم وخجلًا لدماء الشهداء والجرحى منهم وإجلالًا وتقديرًا للباقين المرابطين هناك المنتظرين وبفارغ الصبر صيدهم الثمين.

خلال هذه الوضعية الصعبة والدقيقة والمعقّدة على الجبهة وأمام التفوق التكنولوجي لدى العدو الإسرائيلي مضافًا إليه ما وفَّره له شريكه في دماء شهدائنا الأمريكي والأطلسي والتآمر الرجعي العربي، كُنّا نزف الشهداء بكل فخرٍ واعتزاز على طريق القدس، هذه الدماء العزيزة والغالية التي سقطت في معركة الشراكة في القضية والمصير مع فلسطين ومقاومتها وشعبها ولأجلها، كما ويبدو أنه وفي قراءةٍ لمجريات الميدان في اليومين الماضيين تشعرُ وكأنَّ سلسلة من الإجراءات والمناورات اتخذت لتوجيه المزيد من الضربات القاتلة للعدو في تقدير للموقف والمواجهات السابقة من قبل القيادة العملياتية للمقاومة وفي تعديلٍ لإجراءاتها الميدانية وتكتيكاتها العملية للحدِّ من التفوق التكنولوجي الحاصل لدى العدو خلال الاشتباك المباشر والتي يزجُ فيها بالمسيرات الراصدة والقاصفة وقد ظهر جليًا استخدامها وبوتيرة عالية في الأيام الأخيرة وفيها آخر ما لدى الأمريكي من تقنيات في هذا المجال والذي استخدمها سابقًا في العديد من الساحات إن في باكستان أو أفغانستان وصولًا إلى العراق وسوريا واليمن.

إن ما تقوم به المقاومة على الحافة الأمامية لديه أهداف متعددة وتظهر نتائجها تباعًا، منها ما هو آني ومنها ما هو مستقبلي؛ على المستوى الآني كانت لها انعكاساتها على ما يجري في العدوان على قطاع غزّة، واستطاعت المقاومة في لبنان ترسيخ مفهوم وحدة الساحات عند المواجهة من خلال إشغال قسمٍ كبير من جيش العدو بل نصف القوات النظامية والاحتياط واستهدافها يوميًا، حيث زجَّ العدو في جبهة الشمال تحسبًا وقلقًا ورعبًا مما يسميه “تعدد الجبهات” لما تشكله هذه الجبهة من تهديد وجودي على الكيان والدفع بالتعزيزات والتحشيدات بما لا يقل عن 3 فرق من ألوية المشاة وقوات النخبة تؤازرهم مئات الدبابات الميركافا من الجيل الرابع وناقلات الجند والآليات المتنوّعة مع توفير مظلة جوية من الصواريخ المعترضة ومن منظومات متنوعة وأهمها منصّات الباتريوت والتي بدأت المقاومة في استنزافها وبأسلوبٍ ذكي، مع تدخل لسلاح الجو عند الضرورة، وحضور دائم وعلى مدار ساعات الليل والنهار للمسيرات الأمريكية والإسرائيلية ومن أنواع وأحجام وقدرات مختلفة.

أمَّا على المستوى المستقبلي، فإن التدمير المدروس والمتتالي للتحصينات والمواقع والمعسكرات ومنصَّات وتجهيزات الشبكات التجسسية الإلكترونية على الحافَّة الأمامية وجعلها غير صالحة للاستخدام وتردُّد صدى تلك الهجمات في أسماع المستوطنين في الشمال وتحت بصرهم ونزوحهم خوفًا نحو الداخل مما رسَّخ وسيرسِّخُ مُستقبلًا عدم الشعور بالأمان والطمأنينة لديهم والتي كانت سائدة نوعًا ما سابقًا، وتُشكِّلُ مانعًا أكيدًا ورعبًا حقيقيًا لهم في حال تفكيرهم بالعودة إلى مستوطناتهم. هذا وقد ذكرت القناة “12” العبرية أنّ المستوطنات خالية على بعد نحو 5 كلم من الحدود الشمالية، موضحةً أنّه جرى إخلاء 60 ألف مستوطن على الأقل من الشمال، 20 ألفًا منهم فقط من “كريات شمونة”. وقالت إنّ إخلاء المستوطنين، جرى “من دون تحضير مسبق”، فيما رأت أنّه “حتى لو انتهت الحرب اليوم، لن يسارع الكثيرون للعودة إلى الشمال”، وقال مستوطن إسرائيلي للقناة “12” إنّه على المستوطنين في “كريات شمونة ومنطقة إصبع الجليل، أن يعتمدوا على الأمن الشخصي”، مضيفًا أنّه “في حال لم يعد الردع واضحًا في هذه المنطقة، فإن المستوطنين لن يبقوا في الشمال”. كلُّ هذا إلى جانب زعزعة الاستقرار وضرب المعنويات وإشاعة القلق واستنزاف القدرات والطاقات بسبب اتخاذ التدابير الاحترازية لدى جنود وضباط الاحتلال المحتشدة هناك وبقائهم على استنفار وجهوزية دائمة تحسُّبًا للضربات المفاجئة. وحالة الإنهاك والاستنزاف هذه تُشكِّلً أيضًا توفيرًا للجهود العملياتية المستقبلية للمقاومين وسهولة لهم في السيطرة على تلك الحافَّة الأمامية إن شاء الله في حال اتخذت قيادة المقاومة القرار بالعبور إلى الجليل في المعركة القادمة لا محالة، “وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.

اساسيحزب اللهطوفان الاقصىغزةفلسطينلبنان