لندع العواطف جانبًا. لن يبقى ما بعد الحرب سوى ما ترسو عليه وقائع الميدان، وما لها من ارتدادات على طرفيها.
إذا كان الحدث -أي حدث- هو ذروة تراكم مقدّمات مستترة ومكشوفة، فما يأتي بعده تراكم لحدث آخر تتشكل مقدّماته في سياق متّصل أساسها مقومات مادّية تستند إلى شروط الطبيعة والحياة. مهما كانت بلاغة التّعبير عنها أو ركاكتها.
مهما بدا حدث “طوفان الأقصى” أنه جاء خارج السياق وشكّل صدمة لم تتوقع حدوثها كبرى مؤسّسات البحث والتخطيط في العالم وما كانت تبثّه من أبحاث ودراسات وخطط اقتصادية وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية
أصبحت في فجر السابع من تشرين الأول هباءً منثورًا. ومن كان يهيّئ لتزعّم منطقة تحوي أكثر من نصف مليار إنسان أصبح عاجزًا كسيحًا حضرت اربابه من أقاصي الأرض لمساندته وتدعيم بقائه ووجوده. بين ليلة وضحاها اختفت أعمال وخطط وبرامج ونظُم جرى العمل عليها على مدى نصف قرن مسند إلى نصف قرن آخر سبقه، لا لشيء إلا لأن الطبيعة تلفظ كل تركيب لا يتماهى معها. وكان يكفى حفنة صغيرة من أصحاب إرادات تندفع وبأعقد الظّروف الّتي تفوق قدرة العقل وما تكدّس من معارف حول الحروب وموازين القوى والعمق الاستراتيجي، كخليّة مجهريّة تقتحم جسد ديناصور وتجعله يأكل نفسه وينقرض.
إن أي قراءة لما بعد السابع من تشرين الأول يجب أن تعود إلى الأولويات في جوهر الصراع باعتماد السيرورة التاريخية الاجتماعية وليس من خلال تجميع أصداء من هنا وهناك بما فيها تلك التي تعتبر صدى القوّة الحيّة الصانعة للحدث.
وإذا كانت هذه الجولة ليست نهاية الحروب فهي أيضًا لن تنتهي بتسوية على غرار ما كان يحصل من قبل وذلك لظروف أبعد من حدود المنطقة فضلًا عن بعدها عن حدود غزّة.
أقصى ما يمكن التوصل إليه هدنة غير محددة الأبعاد ولكنها تتيح للارتدادات أن تفعل فعلها. وأبرز هذه الارتدادات هي الهروب الجماعي لقطعان المستوطنين في ظل انعدام أي قدرة على التعويض البشري مهما سعت أي قوّة في العالم إلى حشد مستوطنين جدد.
كما أن المسارات في البيئة المحيطة وموروثات التقسيم الاستعماري للمنطقة لن تبقى على حالها وهي ولو بدون سعي من أحد إلى تغييرها ستحتم التغيير في البنى السياسيّة والبنى الحاكمة أمام عجزها عن إيجاد الحلول للأزمات وما تتطلبه شروط الحياة. وهذا مسار تاريخي تتفاوت تجسيداته بين إقليم وآخر ولكن لأول مرة منذ قرون تتوفّر قوّة ناظمة تحاكي الظروف التاريخية وتشكل القوة الأعظم لإدارة دفّة المسيرة دون أن تستسلم للأمواج العاتية ووعورة الدروب.