اغفروا لنا يا شهداء الله (1 – 2)

مسك فاحت رائحته الزكية، هلموا هلموا، سيروا خلفها، فهي دليل دربكم إلى شهدائنا، احفظوا أسماءهم جيدًا، فإن لم تجدوها انظروا لها فقد نُقشت بدم عفيف على الفؤاد واليد، وثم دعوهم يستريحون ويرقدون في كفن واحد. لم تعد الأكفان تكفي في غزتنا الصامدة، حيث الأرواح تصعد إلى بارئها أفواجًا أفواجًا، مبشرة أحبتها على الأرض بنصر يقيني أبصرته في سمائه جل جلاله.

فقد ترك شهداؤنا دمهم الطاهر يسيل خلفهم ليطهر أرضنا وعرضنا وهو يُعرينا ويحاصرنا من كل حدبٍ وصوب ويلعن عجزنا، أمام طفل يُقسم بنظرة عينيه بانتزاع ثأر والده وأنه آتٍ لإبادة العدو، لتتلاقى نظرته بعيني فتى آخر كاد يصرخ دون أن ينطق بنخوتنا وهو يحاول إيقاظ والدته، فلقد أخذت قسطًا من الراحة كما نخوتنا، فالرصاص الذي اخترق جسدها كان موجعًا فغفت، وعلى مقربة منها كانت تجلس أم مكلومة ودت لو تلحق برضيعها وهي تطوّق كفنه خشية من أن يختطفه العدو منها، فهو يخشاهم حتى باستشهادهم، وكيف لا فهو يراهم ذاتهم وإن اختلفت ملامحهم منذ قرن حتى اليوم في العنان يحلقون كالطيور ويقتصون منه برميه بحجارة من سجيل.

وعلى بعد أمتار في المشفى الآخر وقفت تلك الأم تنادي أطفالها كل باسمه وتصرخ “رحلوا أولادي دون أن يأكلوا” ليردوا عليها “افرحي فنحن الشهداء أكلنا وشربنا من أنهار الجنان وها نحن نذوق حتى طعم الأمان عند الله”، لتنطلق فجأة الزغاريد في ذات المكان وتحديدًا على بوابة المشفى من ممرضة أسعفت جرحاها حتى وصلها نبأ استشهاد زوجها الجريح وأخذت تصدح حين التقت بابنتها وسط الجمع “أبوكِ شهيد شهيد يا بنتي زغردي”. وفي هذه الأثناء كانت والدة يوسف داخل المشفى فالتقت بزوجها الطبيب وهو يُعالج الجرحى حين كانت تبحث عن نجلهما وتُنادي “مين شاف يوسف سبع سنين عمره شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو”، قبل أن يكفكف خبر استشهاده دمعها وزوجها ويفرحان بيوسفهما. وفي الغرفة التي بجوارهما كانت الصابرة تودع ابنتها شهيدة، وتضم صغيرها محاولة إيقاظه ليرضع، وبجانبها طفلة بين ذراعيها شقيقتها الصغرى تنادي على والدها فهي تُريد الاطمئنان عليه ربما يكون بخير ليبعث فيها الأمان وأخواتها باحتضانه لهم.

في هذه المدينة التي ودعت حتى لحظة كتابة هذا المقال نحو 5 آلاف شهيد لا تسمع إلاّ أصوات الوداع العالقة في رؤوسنا؛ ففي هذا الشارع ستجد رجلًا يصدح “الدار انقصفت أنا كنت نايم هون، هي الدار، كلهم استشهدوا”، وآخر أباد العدو عائلته بأكملها وظل صامدًا يقسم بربه ويقول “سيظل الجرح النازف يصرخ أين الأحرار، وتظل دماء شهدائنا وأطفالنا ونسائنا تستصرخ العالم الميت من يأخذ لي بالثار قسما بمن جعل الجهاد مقدسًا إننا لأرواح شهدائنا سنثأر”. وعلى سرير المستشفى جلست الشابة الجميلة أرضًا بجانب كفن أبيها. أمسكت بيديه بشدة تنادي على نبض قلبها وتسرح بملامحه وهي تتلمس يديه وصوتها يعلو: “يا قلبي يا بابا… يا قلبي يا بابا”.

وفي الشارع المقابل والذي خلفه ويليه أيضًا ستسمع أصواتهم تئن وجعًا وتنثر عزة أينما التفت في غزة وكأنها تقول لنا اياكم أن تغفروا اياكم، اصغوا لأبنائي وهم يلعنون هوانكم، انظروا لتلك الأمهات الثكالى، احفظوا حتى شكل الدمع وهو يذرف على وجوههنّ فثمنه والله غالٍ، وهنّ يصدحن على التوالي تحت نيران القصف “استشهد ابني وما حضنته”، و”فدا الأقصى يمّا”، “ابني حلو وشهيد”، و”بنتي متفوقة الأولى عالدفعة”، “عيلتي كلها تحت الركام”، “تعالولي يا أولادي في المنام أشوفكم والله بشتاقلكم”، “يا رب شبابنا راحوا، والله ربيناهم من حبات أعيننا، الحقينا يا جنين، الحقونا يا أهل الضفة، متنا نحنا الحقونا”..

ولكم أن تتخيلوا الآلاف مثل هذه الصرخات كل لحظة تدوي تحت أعنف الغارات في غزة. عفوًا لقد خانني التعبير فلماذا تتخيلون؟ اصغوا وأبصروا فقط هنا حيث عرفنا ما هو قهرُ الرجال الذي قصده نبينا عليه الصلاة والسلام، حين فسرته دموع الرجال تحت الأنقاض وفوق الردم، حاملين أبناءهم وكأنّهم يقدمونهم قربانًا إلى المقاومة وربها ويقسمون به سبحانه وتعالى بأن يحرروا فلسطين بدم فلذات أكبادهم.

فتمعنوا بهؤلاء الرجال الذين غلبهم القهر، أحدهم طبيب فقد أسرته لوقت وما لبث أن وجدها بأكمل أفرادها بين الشهداء حتى انهار، وبين الطرقات استقل مركبته متوجهًا معلنًا تشييع والده، في وقتٍ غمرت دموع الفرح أبا علي حين خرج له علي حيًا من تحت الأنقاض، بينما فُجع ذلك الرجل حين لم يفلح بإخراج طفلته حية فأخذ يقسم بدمها والرب العزيز الجبار بتدمير كيان الاحتلال. القسم نفسه ردده الشاب هنا وسط الجثامين وإن اختلفت المفردات “والله لو كل دورنا راحت، لو كل أهالينا راحوا، لو كل مالنا راح، ما نساوم، والله لو ما لقينا حدا يدفننا ما نساوم، والله لنلعن اليوم إللي إجو فيه اليهود”.

في خضم ذلك على الثرى الطاهر كان رجل يحتضن كفن أخيه بشوق مودعًا إياه بأسى ونذر بالاقتصاص، وشاب آخر قرر أن يودّع الفرح والروح حين ارتدت خطيبته عوضًا عن فستان الزفاف كفنًا! وكاتبة هي هبة من الله عزمت الرحيل بعد أن لخصت الفاجعة الأليمة والمصاب الجلل كذلك “نحن في غزة عند اللّه بين شهيد، وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر، أين سنكون” فاستجاب لها ربها وارتقت إلى المكان الأعظم والأطهر بارتقائها شهيدة وهي تقول آخر كلماتها “كلنا ننتظر اللهم وعدك الحق”.

وأخيرًا وليس آخرًا ما ذكرته من مشاهد وصرخات ليس إلاّ جزء بسيط من قصص أهالي المدينة الصابرة المحاصرة التي لكل طفل وامرأة ورجل وشيخ فيها حياة وحلم لم ينفك الاحتلال عن سرقتهما وقتلهما، فها هو الدم أمامكم حيثما وليتم وجوهكم، ينقش بقطراته أسماءهم وهو يسيل من غزة إلى الضفة ويمرّ بسوريا حتى يصل جنوب لبنان المبارك معلنًا زوال كيان العدو الصهيوني وحاملًا بشائر التحرير.

يبتع في الجزء الثاني….

اساسيطوفان الاقصىغزةفلسطين