ذاكرةُ الصَّعتر الجنوبي

عفيفة نور الدين – خاص الناشر |

“النّسيان”، الكلمة الّتي لا تعرفها طفولةُ ابنةِ الجنوبِ الّتي ترعرعت وهي تقضم لقمة الصّعتر المرّ المقطوفِ من لُبِّ الأرضِ بكفّي والديها.

كانت تذهبُ معهما في أيّام العطلة الصّيفيّة إلى الوادي المُجاور لمنزلهم، تنزعُ شعور الانتماء من جذوره ليصبحَ فطورها اليوميّ المُعدّ تحت تأثير نظراتها المتخبّطة بين أفكارٍ تدور في رأسها حول القرارات الّتي تصدرُ عما يُسمّى بالأمم المتّحدة والأرقام الّتي تُعرّف بها، المجازر الّتي تُرتكب على يد العدوّ الإسرائيليّ، واللّحن الّمرافق للمُلحقِ على قناة المنار حيث يعمّ الصّمت أرجاء الغرفة وتجتمعُ العائلة ليسمعوا النّبأ المُنتظَر.

ويحدثُ أن تختفي الصّورة، وهذا ما كان يُجبرُ سريع الحركةِ ليصعد “السّطح” ويحاول تحريك “الأنتين” نحو الجنوب كي يصوِّب التردّد، وغالبًا ما كان ينتهي نقل الخبر قبل أن تتحسّن جودة الشّاشة، فينتظروا الإعادة.

لا تنسى ابنةُ الأرض طعم الصّعتر الحادّ، وهي تُخالف الأوامر حين طُلبَ منها البقاء خارج الغرفة كي لا تتأثّر بمشاهد مجزرة قانا بعد أن سبقتها مجزرة إسعاف المنصوري وصوت الطّفلة ذات الشّعر المتطاير من شبّاك السيّارة وهي تنادي عمّتها. كانت المفاهيم تتراكم في عينيها ونظراتها الثّاقبة نحو الحدث، ما الّذي يحصل؟ لماذا يركض ابن المنصوري حاملًا طفلته وهو يصرخ “يا ويلي، 4 ولاد يا الله، يا الله”؟ بينما يتحدّث والداها عن معرفتهما الشّخصيّة به وما إذا كانت ابنته على قيد الحياة أم لا؟! لماذا تُحمل طفلةٌ قطيعةُ الرأس بثوبها الأبيض الملوّن بدمائها؟ هل تألّمت أم كانت نائمة وانتقلت سريعًا من حالة الوفاة المؤقّت إلى الأبديّ؟

لم يكن يتّسع الوقت لتنطق بما يجول في خاطرها. الحزن يُخيّم على المنزل والنّفس قصيرٌ ، والشّرح يطول اذا أرادوا الإجابة عن أصل القضيّة وسبب القتل والإجرام والفظاعة، فالصّعتر في طريقه إلى اليباس ولا بدّ من تحضير وجبة الطّعام بغصّة والسّعي لتأمين القوت اليوميّ ولو من تحت الأنقاض.

كلُّ ما رأته خزّنتْه في الذّاكرة وراكمتْه. حتى اللّعبة اليوميّة في الحيّ كانت عبارة عن دائرةٍ كبيرةٍ تُرسم بالحجارة الكلسيّة وتقطّع إلى أجزاء يُكتب في كلّ جزء منها اسم المدينة الّتي تُحارب “وقعت الحرب في مدينة…..” ويتمّ الاختيار وفق قوانين يضعها أطفال الحارة ومن ثمّ يبدأ رشق الحجارة بين من مثّلوا دور الصّهاينة ومن هم أبناء المدينة المُحتلّة.

في إحدى الّليالي، استفاقت على صوتِ والدها فوق رأسها، ينظرُ خارِجًا، ويسأل الجيران عما إذا قصف الطّيرانُ الحربيّ أم لا. رأت والدتها نائمةً بقربِها، حدّثت نفسَها عن حتميّة شجار والديها خلال اللّيل أو لعلّ تعب القِطاف أنهكَ جسمَ أمّها فقضت ليلتها بجانبِها.

اشتدّ صوت الطّيران، طلب أبوها منها أن توقظ أختها وأخويها للخروج من المنزل حيث يتجمّع أبناء الحارة في منزل جدّها. تجمّعنَ النّساء في غرفة “المطبخ” ومعهنّ الأطفال، وبين الحين والحين تُبادر إحداهنّ لطمأنتهم بأنّ الأمر سينتهي قريبًا، أمّا الرّجال فقد اجتمعوا سويًّا يراقبون السّماء ويستمعون إلى ما يمكن شرحه.

مرّ الوقت، هدأت الأصوات، انتهى الاشتباك، على ابنة السّتّ سنوات أن تعود إلى فراشها وتنسى ما حصل وتعاود النّوم ريثما يطلع الصّباح بعد أن أخبرها والدها بأنّ الصّباح سيحمل الخبر العاجل.

تفاجأَت صباحًا بصورة أحد أقربائها على التّلفاز وهو يحمل رأس جنديّ صهيونيّ، في حين يخبره الجميع عن متطلّبات الشّهرة وصعوباتها. تسمعُ في أزقّة الحيّ أحاديث عن أشلاء الجنود والكمين الّذي أعدّت له المقاومة في أنصاريّة. لم يكن قد مرّ يومٌ على الحدث، وها هي تحفّظ في ذاكرتها كيف داست على أشلاء سوداء لم تكن تعلم ماهيّتها فأكّدت لها جدّتها أنّها بقايا من “جلدة رأس” الجنديّ. حصل ذلك عندما زُرنَ خراج بلدة أنصاريّة، فقد اجتمعنَ نسوة الحيّ يتحدّثنَ عن خلطةٍ جديدةٍ للصّعتر تخفّف من مرورته بعد أن كان طعمه كالعلقم في الموسم الماضي حيث قد سمعت إحداهنّ من زوجها الفلّاح بحكم خبرته في الحراثة والزّراعة، أنّ خصوبة الأرض ستزداد على إثر الّليلة الماضية ومن المرجّح أن ينبتَ ما يزيد زادَ المدرسةِ حلاوة!

كان الأثر لهذه الوصفة أن جعلت “النّسيان” من المستحيل على ابنة الجنوب، كانت اللّقمة بطعمتها المستجدّة الّتي تجمع بين ضادّين، سببًا لتقوية الذّاكرة ومكوث الأحداث لا بل المشاعر بكامل جوانبها.

يكتملُ الطّعم بالانتقام والثّأر، ثأرٌ لله على يدي خلقِه من أجل خلقِه، يحملُ النّسيان عدّته ويرحل، ونعيش في التّاريخ بين أضرحةِ المقاومين الشّهداء وتلبيتهم الأبديّة لصراخِ قبور المجازر الجماعيّة، نسكنُ في نهضةِ حفيد الآل من بين عذابات المُستضعَفين حين نادى بالموت للاستكبار، نوجّه للنّسيان صفعة حين نعود إلى زمنٍ نبكيه كلّ عام لا بل كلّ يوم، نعيشُ بركاته ونستمدّ الصّبر من أهليه، حين نادوا في وجه الطّاغية “لن تمحو ذكرنا”.

اساسي