يستَكمِل العَدوّ الصهيوني عدوانه الإجرامي على قطاع غزّة المُحاصَر، بعد الضربة “الاستراتيجيّة” الكبيرة التي تلَقّاها فجر السابع من تشرين الأول الجاري، والتي نزلت كالصاعقة على كيان الاحتلال بكل أطيافِه، ووضعت على المحكّ مصيره، وبشكل جَدّي هذه المرة، أكثر من أي وقت مضى. سريعًا، وبعد أن استَفَاق الجميع من هَول الصدمة، تَوَجَّهَت الأنظار نحو الضاحية الجنوبيّة، حيث القرار القيادي لدى حزب الله، وبدأ التساؤل حول الدور الذي يضطلع به الحزب، وما سيقوم به ضمن سياق المواجهة الدائرة في فلسطين المحتلة.
لدى حزب الله حَيثيّة ضخمة داخل ميدان الصراع في المنطقة، والعالم، وهو الحزب الذي أثبتَت مقاومته، على مدى أكثر من 40 عامًا، حنكة “استراتيجيّة” فعّالة جعلته يتربّع فوق عرش الرّدع الذي يعاني منه كيان الاحتلال الإسرائيلي. ولا يختلف اثنان، أن حزب الله أضاف نوعًا خاصًا من الإبداع على مسار الصراع الممتَد منذ نشأَته عام 1982، وقد كانت كل مرحلة من مراحل تلك النشأة، وبروزه من بعدها كعامل أساسي في الساحة الإقليميّة، تَتَمَتَّع بِسِمات تختلف عما قبلها وما يليها، حتى استطاعَت المقاومة، من خلال هذا المسار الإبداعي، خلق حالة استثنائية، ارتقت لتكون العائق الأساسي أمام المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والذي تمثّل “إسرائيل” قطب الرّحى فيه.
دخل العدوان على غزة أسبوعه الثالث، من دون أن يحقّق من خلاله العدوّ أي إنجاز عسكري يُذكَر، بل اقتصرت أفعاله على قتل الأطفال والنساء، في سلوك انتقاميّ يوضِح جسامة الصفعة التي تلَقَّتها حكومة العدوّ، ومن ورائها كافة أركان الدولة المزعومة، والشعب الاستيطاني الصهيوني بطبيعة الحال. وللآن لم يشبع رئيس حكومة العدوّ، بنيامين نتنياهو، ولم يرتَوِ من حمام الدماء بعد، إنما يكمل حملة الإبادة الموصوفة ضد سكان قطاع غزة الأبرياء الآمنين، في ظلّ حماية غربية شبه مطلقة لحدّ الآن، ورعاية أميركية استثنائية، استدعَت قدوم رئيسها، جو بايدن، إلى الاراضي المحتلة خلال الحرب، في خطوة غير مسبوقة لرئيس أميركي أن يزور أرض المعركة خلال احتدامها.
في ظلّ هذا المشهد المُحتَدِم، والوحشيّة غير المسبوقة في التاريخ، التي يتعرّض لها سكان قطاع غزة، لا بدّ من ذكر بعض النقاط المتعلّقة بالشأن:
- إن الصفعة التي تلقّاها نتنياهو على وجه التحديد، فجر السبت 7 أكتوبر، لم يتعرّض لها أحد من قادة الكيان الصهيوني قبله. حتى أن عملية طوفان الأقصى أزالت من الوعي الصهيوني نكبة يوم الغفران، التي لاحقت العدو منذ ما يزيد عن الخمسين عامًا.
- من الواضح أن هدف نتنياهو انبثَق من لحظة غضب عارمة، بحجم الضربة التي انهالَت على كيانِه فجر ذلك السبت المجيد، فأطلق العنان حينها لعملية “القضاء” على حماس، وما يحمل تحت طيّاته من نيةٍ لإبادة أهل غزّة، وتهجير من تبقّى فيه. فما أضمره نتنياهو في تلك اللحظة الجنونيّة كان اجتثاث قطاع غزة بالكامل، لاستعادة هيبته المسحوقة تحت أقدام المجاهدين إبّان عملية طوفان الأقصى.
- لا يستطيع نتنياهو لحد هذه اللحظة ايقاف الأعمال العدوانيّة، لأن اليوم التالي سيكون “استئصاله” من الحياة السياسية، وسَوقه نحو المحاكم القضائية التي كانت تنتظر الانقضاض عليه منذ سنوات، وبالتالي هو بحاجة إلى إظهار انتصار ما، حتى لو كان وهميًا، على شاكلة عمل ردعي من العيار الثقيل، يأتي من بعده من ينزله عن الشجرة التي تعلّق بها. لكن الامر على نتنياهو هذه المرة أصعب مما واجهه نظيره ايهود أولمرت إبّان عدوان تموز عام 2006، حينما رسم الأخير هدفًا معلنًا لا تراجع عنه، وهو سحق حزب الله، لينتهي به الأمر رئيسًا فاشلًا يواجه العجز. لكن هذه اللحظة تختلف عن لحظة تموز، فعملية طوفان الاقصى أيقظت لدى الصهاينة الشعور باقتراب الزوال، وهذه لحظة وجوديّة تشغل هواجس العدوّ منذ فترة طويلة، وتساهم فيها معطيات عدّة، تاريخيّة وراهنة، تجعل الكيان المحتل خائفًا على أصل وجوده على أرض فلسطين.
- هناك شرخ حاد داخل الساحة الداخليّة الصهيونية، إلى حدّ الحديث عن اقتراب الاقتتال “الداخلي” بين الصهاينة في المرحلة المقبلة، جرى الترفّع عنها حاليًا بسبب الخطر الوجودي الذي تحدّثنا عنه، ما اضطر قادة الكيان إلى ترك الخلافات، مؤقتًا، والتوجّه سويًا نحو الحرب. لكن ماذا عن اليوم التالي لانتهاء الحرب، وخصوصًا إذا ما انتهت بانتصار الشعب الفلسطيني على العدو، وهذا ما سيحدث حتمًا؟ من المؤكّد أننا ذاهبون نحو الانشطار الذي لا رجعة عنه من دون حرب أهلية “إسرائيليّة”، تُذهِب الاحتلال نحو الهاوية.
- منذ بداية العدوان، يهدّد الإسرائيليّون بالتوغّل البَرّي، لكن من دون أن يخطوا نحو ذلك لحدّ الآن، نظرًا للعواقب التي تنتظر جيشهم على أرض القطاع، ولهم في ذلك تجربة في الأيام الاخيرة لحرب تموز، إضافة إلى القناعة التي تسيطر هناك أن الفرد الصهيوني لم يعد قادرًا على القتال، لأسباب عدة، هذا فضلًا عن قناعة الجيش الإسرائيلي بأن المقاومة الفلسطينيّة أعدّت العدة جيدًا وهي بانتظار لحظة الالتحام. هذا في الداخل، أما في الخارج فالعين على الشمال، والخوف من الخطوات التي قد يتّخذها حزب الله، اتخاذ قرار الهجوم البرّي الصهيوني، وهذا ما يظهر التخبّط الذي يطفو على المشهد عند الصهاينة.
- أما على الجبهة الشمالية، عند الحدود اللبنانية الفلسطينية في جنوب لبنان، فلا شك أن حدّة القتال ترتقي يوميًا، ضمن قواعد اشتباك ترسمها النيران بين المقاومة والعدوّ الصهيوني. فالمقاومة لن تهدأ عن مشاغلة العدو عند تخوم فلسطين المحتلة، وأبعد من ذلك أيضًا، فالحزب دخل المعركة، وما يجري هو معركة حقيقيّة لم تعتلِ صهوة الحرب بعد، لكنها أشبه بجولة قتالية، دقيقة للغاية، تجري على حبل رفيع، فوق هاوية الحرب. ومن المتوقّع أن تستمر بهذه الصورة، مع تصاعد متباطئ في الحدّة، لكن لن تتخطّى هذا السقف طالما أن المقاومة الفلسطينيّة بخير. والظاهر أن المقاومة الفلسطينيّة لم تفصح عن بأسها إلى الآن، وما تخفيه سيلحق بالعدوّ هزيمة أخرى غير تلك التي حصلت في طوفان الأقصى. إلى هذا الحَدّ، ربما ستبقى ساحة الجنوب اللبناني موضعًا للمواجهات بهذا الشكل، وبشكل تصاعدي.
رغم شدّة المشاهد القاسية التي تَرِد من قطاع غزة، وما أدمى قلوبنا منذ أيام ولا يزال، فإن فجر الحرية لهذه الأمّة سيبزع حتمًا بعد أن سقاه أطفال غزة ونساؤها دماءهم، وستكون تلك الدماء السبب القريب والمعجّل لزوال الاحتلال عن أرضنا المقدّسة. وإلى أن يتوقّف نتنياهو عن جنونه، ويرجع قليلًا إلى عقله، سيكتشف أنه يلعب في الهواء، ولن يحصد سوى الهزيمة والخيبة.