في بيئة المقاومة اليوم شرائح مختلفة في تعاملها مع الأزمة الاقتصاديّة التي أصابت الناس في رواتبهم وهدّدت لقمة عيشهم. والمُخالط للناس -على الأرض أو على وسائل التواصل- يسمع الكثير من الآراء ووجهات النظر المختلفة حول تقييم الوضع وحول السبل التي ينبغي اعتمادها كحلولٍ أو كتعاملٍ مرحليٍّ مع ما نمرّ به.
والملاحَظ لدى البعض، الشعور بخيبة الأمل نتيجةً لارتفاع التوقّعات المسبقة فيما يخصّ الأداء السياسيّ الداخليّ لحزب الله، التوقّعات الناشئة من مقارنة الإنجازات العسكريّة الكبيرة التي حقّقها الحزب في الميدان في العقد الأخير، مع الوضع الداخليّ الذي يبدو الحزب فيه مكبّلًا عاجزًا عن إحداث ثغراتٍ حقيقيّةٍ بيّنةٍ في المنظومة الفاسدة التي تتحكّم برقاب الناس، وعن تعديل سلوكها بما يرفع الظلم عنهم ويخفّف من وطأة الفساد.
يسأل البعض أنّ حزب الله الذي خاض معركةً طاحنةً في سوريا، كانت تتصارع في ساحتها عشرات الجهات ومن خلفها الدول الكبرى، واستطاع الوقوف في وجه مشروعٍ دعمه وموّله وغطّاه كلّ طواغيت الأرض، وحقّق انتصاراتٍ عظيمة وإنجازاتٍ كبيرة ودفع عن أهله الأخطار.. كيف لا يستطيع هذا الحزب تحصيل حقوق أهله في الداخل؟
عندما يفكّر الإنسان بهذه الطريقة نعم قد يخيب أمله.. ولكن مع غضّ النظر عن أنّ المقارنة لا تجوز أصلًا بين الأداء في ميدان الحرب العسكريّة والميدان السياسيّ، إذ لكلٍّ منهما خصوصيّاته التي تستدعي أداءً خاصًّا ويترتّب عليه نتائج خاصّةٌ، مع غضّ النظر عن هذا فإنّ الإشكال الأساس في المقارنة أنّها تستند -في كثيرٍ من الأحيان- إلى رؤيةٍ مجتزأةٍ ناقصةٍ لأداء الحزب في الميدان العسكريّ وكيف صنع النصر هناك. هذه الرؤية تغفل أنّه:
أوّلًا: في الحرب قدّم حزب الله تضحياتٍ هائلةً، عدد الشهداء والجرحى كان كبيرًا، الأتعاب والجهود لا تُحصى، كمّ الأذى الذي صُبر عليه لم يكن قليلًا. نعم، كان هناك فئةٌ محدّدةٌ هي التي تضحّي وكان المجتمع ينعم بالأمان بفضل هذه التضحيات، بينما اليوم نخوض معركةً المجتمع هو الذي يضحّي فيها بشكلٍ مباشرٍ.
ثانيًا: في الحرب -كما في السياسة اليوم- كان الحزب متحالفًا مع بعض الأطراف التي لا تشبهه، لا في الرؤية ولا في القيم ولا في السلوكيّات على الأرض. خاض الحزب معارك مشتركةً مع الجيش الروسيّ مثلًا، والأمثلة متعدّدةٌ.
ثالثًا: في الحرب كانت الأخطاء تحصل، وبعضها كانت أخطاءً جسيمةً ومُكلفةً. من هذه الأخطاء تعلّم الحزب وراكم تجاربه وطوّر أداءه. (تخيّلوا لو أنّ بيئة المقاومة كانت تُقيم الدنيا وتُقعدها عند حصول أيّ خطأٍ كما يفعل البعض اليوم عند حصول بعض الهفوات والأخطاء، كيف كان الوضع سيكون عندها).
رابعًا: الحرب لم تكن سلسلةً متّصلةً من الانتصارات، بعض المناطق تمّ تحريرها ثمّ سقطت في أيدي الجماعات المسلّحة مرّةً واثنتين وأكثر، بعض الهجومات فشلت. لكنّ هذا لم يكن مدعاةً لليأس وضعف العزيمة، بل بقي الأمل بالنصر والاتّكال على الله تعالى هو المحرّك للمجاهدين حتّى حقّقوا النصر النهائيّ.
خامسًا: في الحرب تعرّض العسكر في الأرض للخيانة والطعن من الشركاء أحيانًا في بعض الموارد، وبعض التضحيات ضاعت بسبب أداء البعض أحيانًا.. لكنّ العيون بقيت ناظرةً إلى الهدف النهائيّ حتّى تحقّق.
سادسًا: في الحرب لم يستطع حزب الله الدفاع عن بعض الناس الذين حاول تأمين الحماية لهم، كان يراهم يتعرّضون للظلم والعدوان والقصف والقتل وكان عاجزًا عن تقديم العون المباشر لهم. أهل كفريا والفوعة مثالٌ على ذلك، بقوا محاصرين مظلومين سنينَ حتّى تمّ تحريرهم فيما بعد.
سابعًا: في الحرب لم تكن كلّ الجهود والتضحيات تظهر “للرأي العامّ”. الكثير ممّا قام به حزب الله لم يعرفه الناس إلى ما بعد سنواتٍ، وبعضه لم يعرفه إلى الآن، وقد يبقى بعضه مجهولًا إلى الأبد. ليس كلّ ما لم نعلم به لم يكن قد حصل، كانت الثقة بالقيادة والمجاهدين هي المعيار في التعاطي مع الأحداث المجهولة.
ثامنًا: في الحرب كان هناك انسدادٌ في الأفق في كثيرٍ من الأحيان. كانت بعض المشكلات تبدو بلا حلٍّ، وتعقّدت الأمور مرارًا وتكرارًا.. لكنّ الاتّكال على الله وحده والإخلاص في العمل كان يفتح باب الفرج وييسّر الأمور.
هذه بعض النقاط -ولو تأمّل المنصف لوجد غيرها أيضًا- التي يُغفل عنها عادةً عندما يقارن البعض بين أداء حزب الله في الميدان العسكريّ والميدان السياسيّ. يتصوّرون أن الانتصارات والإنجازات تحقّقت بـ”كبسة زرّ”، أو أنّها غير مدفوعة الثمن، وأنّ العمل هناك كان مثاليًّا بما يتجاوز قدرات البشر، وأنّ الحزب لم يراعِ الظروف الواقعيّة والطرق المتاحة للعمل.. بينما لم يكن الأمر كذلك أبدًا.
بالطبع، لم يكن الهدف من هذا السرد والتعداد هو المقارنة أيضًا، فقد ذكرنا أنّ كلّ ميدانٍ له خصوصيّاته وأحكامه والوسائل المناسبة له. لكن إن أصرّ البعض على هذه المقارنة، فليكن المشهد واضحًا أمامهم، وليقارنوا بناءً على الواقع لا على التصوّرات المثاليّة غير الواقعيّة.