فرضت تداعيات الأحداث في فلسطين المحتلة نفسها على تركيا بوصفها جزءاً من منطقة ضربها فالق 7 أكتوبر، الذي لم تحسب له الحكومات المختلفة في غرب آسيا وخارجها حساباً، وإن كانت بلاد الأناضول معتادة على خطها الزلزالي الطبيعي، فإن للهزة الاستراتيجية التي أحدثها “طوفان الاقصى” صدمة يصعب، ويكاد يستحيل، على أداء أنقرة الرسمي الحالي امتصاصها خاصة مع تصاعد منسوب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي قال “نحن مع إخواننا الفلسطينيين الأبرياء وسندافع عن فلسطين مهما كان الثمن” منذ 3 أعوام، أرتأى في الساعات الأولى من المعركة أن يكون في المنتصف، فدعا المحتل وأبناء الأرض “للتحلي بضبط النفس”، بل حمل هاتفه للاتصال وتقديم التعازي إلى “نظيره” الإسرائيلي حاييم هرتسوغ بسقوط قتلى من المستوطنين، في موقف كان صداه محبطاً، حتى في أوساط محبيه الأتراك، فإن اقتضت “ضرورة السياسة والاقتصاد” إعادة التطبيع واستقبال هرتسوغ في القصر الرئاسي (2022)، فإن الحنكة المفترضة كانت تقتضي “صمتاً” في أضعف الإيمان، على الأقل في اللحظات الأولى، لحين جلاء غبار المعركة واتضاح صورة المشهد الفلسطيني.
صاحب موقعة “دافوس” (2009) ومواجهة “مافي مرمرة” (2010) وطرد السفير (2011) والسفير والقنصل (2018)، لم يجد حرجاً حتى الآن برؤية أن “الوقت هو للوساطة بين الطرفين”، في وقت لا ينقص الفلسطينيين وسطاء لم يثبت أحد منهم أنه ليس بناقل للرسائل من الإسرائيلي أو الأميركي، فشغّل إردوغان “خليفته المحتمل” وزير الخارجية هاكان فيدان في حركة إقليمية بدأها بالحديث عن “النقاش” مع حركة حماس للإفراج عن الأسرى، خاصة الأجانب، وهو ضغط إضافي يبدو أن أنقرة تريد أن تمارس فيه سلطتها على ما تبقى من هياكل للحركة في تركيا. المفارقة أن اردوغان استعاد في بياناته الداعية لوقف الحرب أدبيات تجاوزها الزمن فـ”حل الدولتين” نسفه الإسرائيلي مراراً وتكراراً وتوّجه الأميركي بتطويب القدس عاصمة لـ”إسرائيل”، أما في المتحول الاستراتيجي فوقائع الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى” كادت أن تصل قطاع غزة بالضفة الغربية ما يطيح بحدود 1967 إحدى مرتكزات هذا “الحل” للقضية الفلسطينية.
اللغة الناعمة والحذرة للقيادة التركية في مقاربة الحدث غير المسبوق في غرب آسيا، يفسره خوف وقلق انقرة، فسياسة اردوغان خلال الأعوام الماضية نجحت إلى حد ما في فكفكة نقاط الاشتباك في الإقليم من محاولة المصالحة مع الحكومة السورية وإستعادة العلاقات مع الدول الخليجية إلى إعادة التطبيع لأعلى مستوياته مع “إسرائيل”، وهي سياسة كانت ترمي إلى الاستفادة من استقرار في المحيط ينعكس إيجابية على الواقع الاقتصادي في بلاد الأناضول التي أنهكت في السنوات الماضية مع معدلات تضخم متصاعدة وعملة متهاوية خلال وقت قصير نسبياً، وهو هاجس يدق أبواب السراي الرئاسي يومياً خاصة أن صعود حزب العدالة والتنمية الداخلي كان على أكتاف تحقيق “المعجزة” التي يعلم الاتراك أنها ستحترق كعود كبريت بيد غرب تقوده واشنطن القادرة على التحكم بمرافق اقتصادية في هذا البلد واستخدام أذرعها المالية في الابتزاز السياسي عند المنعطفات الكبرى.
هذا الاستقرار الإقليمي المنشود، والشديد الحساسية بالنسبة لأنقرة، كان لغة صريحة على لسان فيدان الباحث عن “أولوية تركيا في الوقت الراهن” المتمثلة حالياً في “منع التوسع الجغرافي للصراع الدائر”، والقيادة التركية، على ما يبدو، بدأت تتلمس بعد مرور نحو أسبوعين على المعركة أن أفقها سيتجاوز جبهة قطاع غزة إلى ما هو أبعد، من الحدود الفلسطينية اللبنانية إلى قواعد للولايات المتحدة في العراق وسوريا الجارين لبلاد الأناضول ما قد يفتح الباب أمام موجة تغيرات في المنطقة لن تكون البلاد بمنأى عن تأثيراتها المباشرة، وفي أقل السيناريوهات وضعاً حدودياً جنوبياً غير ملائم يستدعي رفع جهوزية القوات المسلحة، بينما يزداد الضغط الأميركي لأجل مرونة تركية أكبر في استخدام قاعدتي إنجيرليك وكورجيك للعمليات الإقليمية مع ما يعني ذلك من إحراج يضع أنقرة في إصطفاف معاد لمحور كبير من طهران إلى بيروت.
أما في الداخل التركي، فإن الشارع سبق حكومته، فقد أعلن إنحيازه بوضوح إلى الشعب الفلسطيني، إن تأييداً لـ”طوفان الأقصى” أو تنديداً بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ومنذ اللحظات الأولى خرجت أصوات من عباءة التحالف الواسع الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، وتحديداً من حزب “الرفاه من جديد” (إسلامي) بقيادة فاتح اربكان إلى حزب “الدعوة الحرة” (إسلامي) بقيادة زكريا يابيجي اوغلو لمباركة العملية الفلسطينية ورفض اللغة الرسمية في مقاربة الحدث، وكانت الفرصة سانحة، أيضاً لرئيس حزب المستقبل المعارض أحمد داوود أوغلو لمعاتبة “قائد صمت لمدة 10 أيام ولم يخرج ويصرخ ضد إسرائيل”، وهو موقف أطلقه الصديق القديم لإردوغان خلال اجتماع بين حزبه وحزب “السعادة” المعارض (إسلامي) بقيادة تمل قرة ملا أوغلو الذي استغرب عدم اتخاذ الحكومة “إجراءات فورية لمنع ظلم الظالمين”.
وعلى الرغم من تشنيع إعلامي شنته أحزاب معارضة علمانية في بداية المعركة عبر الغمز من قناة اردوغان الذي “يدعم من يقتلون المدنيين” (في إشارة إلى حركة حماس)، إلا أن فظاعة المجازر مع مرور الأيام في قطاع غزة، فرضت إجماعاً في “مجلس الأمة التركي الكبير” (البرلمان) على إدانة الحرب الإسرائيلية، ودفع بحزب العدالة والتنمية للحاق بركب الجماهير، مع تظاهرات حاشدة نظمت في اسطنبول كان في مقدمتها وزير الداخلية السابق (الشرس) والنائب الحالي سليمان صويلو وصاحب شركة “بايكار” المصنعة للمسيّرات (صهر الرئيس) سلجوق بيرقدار، لكن ذروة الاحتجاجات الشعبية تجاوزت التظاهرات المعتادة، مع توالي الأنباء عن مجزرة المستشفى المعمداني، لتتفجر مواجهات مع قوات الأمن أمام السفارة الإسرائيلية في انقرة والقنصلية في اسطنبول، وموكبين سيّارين اتجها، للمرة الأولى نحو قاعدتين أجنبيتين، في مالاطية للوصول إلى قاعدة كورجيك (تضم قاعدة رادار ومراقبة وتعد جزءاً من نظام الدفاع الصاروخي للناتو)، وفي أضنة للتوجه إلى قاعدة إنجيرليك الجوية (مركز تخزين إقليمي أميركي للقنابل التكتيكية والاستراتيجية).
موجة الغضب المتصاعدة بعد مجزرة المعمداني دفعت القيادة التركية إلى إعلان الحداد العام لـ3 أيام مع تنكيس الأعلام، وهو أمر نادر الحدوث ولا يترافق إلا مع حدث جلل في الداخل، في محاولة لامتصاص نقمة الشارع الذي قد يخرج عن السيطرة أمام الأهوال المتتالية أخبارها في قطاع غزة، ومع ارتفاع منسوب التغطية الإعلامية للقنوات المحلية، انتقل التلفزيون التركي الرسمي من مصطلح “القتلى” الفلسطينيين إلى “وفيات” أو “فقدوا حياتهم”، بينما أبدت وسائل إعلام محسوبة على العدالة والتنمية إنحيازاً متعمداً، في لغتها التحريرية إلى الحق الفلسطيني، مع استخدام مصطلح “القوات الإسرائيلية القاتلة” و”الجرائم الإسرائيلية”.
منذ أيام نشر إردوغان صورة للشاعر التركي نوري باكديل الملقب بشاعر القدس، وترحم عليه مادحاً قيمه، وكان لافتاً أن أحد المعلقين على حسابه كتب: “باكديل شاعر، لكن الرئيس صاحب قرار… بانتظار القرار…”، وهو تعليق يلخص بعضاً من أداء رئيس الجمهورية منذ زلزال 7 اكتوبر، وهو إن لم يعلن سبباً لهذا الأداء فقد صرحت به دوائره ومنصات الحزب الحاكم المختلفة إقراراً بعجز عن المواجهة السياسية، فضلاً العسكرية، عبر نبش مفهوم “اتحاد إسلامي” هو وحده قادر على القيام في وجه “إسرائيل” وليس بدولة واحدة، كان قد أطلقه سابقاً أحد المستشارين غير الرسميين للرئيس، القيادي في العدالة التنمية، عدنان تانري فردي، لكن هل يعفي انتظار هذا “الاتحاد” قيام القيادة التركية بواجب إخلاقي تجاه فلسطين ليس أقله قطع العلاقات، أو تجميدها بأضعف الأحوال، مع “إسرائيل القاتلة”؟ الأتراك والفلسطينيون وغيرهم من شعوب بانتظار الجواب.