لم تَكُن زيارة وزير الخارجية الايرانية، حسين أمير عبداللهيان، الأخيرة إلى المنطقة كسابقاتها من الزيارات التي تحمل طابعًا دبلوماسيًا وسياسيًا في أغلب الأحيان، إنما أتَت هذه المرة تحمل تحت طيّات دبلوماسيّتها مهمّات أخرى، رَبطًا بما يجري على الساحة الفلسطينيّة، والعدوان الهستيريّ الذي تَشُنُّهُ آلة الحرب الصهيونيّة، مُدَعَّمة بحاملات الطائرات الأميركية، على المدنيّين في قطاع غزّة المُحاصَر.
صَبّ الإحتلال الإسرائيليّ جام غَضَبِه على أهل غزّة، التي أذاقَته مقاوَمَتُها صفعَة لن ينساها هذا الكيان في العُمر القليل المتبّقّي له على أرضنا، صباح السابع من تشرين الأول- أوكتوبر الجاري، وهو التاريخ الذي دُوِّنَ على صفحات العِزّ في تاريخ أمّتنا الماضي والمُعاصِر.
أعلَن رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتانياهو، ومن خلفه أبرز قادة الكيان، أن الهدف الوحيد الموضوع على طاولة الحرب الإسرائيليّة هو القضاء على جذور المقاومة في قطاع غزة، وبشكل لا رجعة فيه. إذًا نادى القادة الصهاينة منذ اليوم الأول، أن الهيبة التي سُحِقَت يوم “الغُفران”، لن يستعيدها إلا كسر المقاومة في غزّة، وتدمير بناها التحتية والشعبية الحاضنة، وهدم كل مقوّمات صمودها وكل عناصر الحياة والاستدامة التي تَتَمَتّع بها المقاومة هناك. فلا شَكَّ أن الضربة التي تَلَقّاها العدوّ يوم “طوفان الأقصى”، لم يشهد له مثيلًا في تاريخه، حتى أنه أزال “نكسة” العام 73 من الوعي الجَمعيّ الصهيوني، وشعر أنه في حالة ضعف وعجز لم يشعر بهما خلال الـ75 سنة منذ تأسيسه عام 1948.
المشهد في المنطقة دقيق جدًا، وكأن الأمور ذاهبة إلى حرب كبرى، أكثر من اقليميّة، تشتبِكُ فيها قوى المقاومة من جهة، مع أميركا وبريطانيا و”إسرائيل” بالحَدّ الأدنى، من جهة أخرى. وعليه، فإن المنطقة ترقد على شفير حرب، إلا إذا قرّر الأميركيّ، الذي يمتلك القرار اليوم في تل أبيب، التراجع عن نواياه الهمَجيّة، والمستحيلة، والتفكير بواقعية، وأنه سينال خيبة أكبر في حال أقدَم على تخطّي الخطوط الحمُر، والتي ربّما ستنالُ من تواجده في منطقتنا بشكل ساحق، ولا تعطيه حينئذٍ فرصًا أخرى للتراجع.
في ظلّ هذا الجَو المُهَيمِن، والمجازر غير المسبوقة التي يرتكبها العدوّ الصهيوني بحق سكان قطاع غزّة، والتي لم توفّر أطفالًا ولا نساءً ولا شيوخ، حطَّ وزير الخارجية الايرانية في المنطقة، وكان لقاؤه الأول بنفس الليلة مع الامين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، يمثّل الهدف الأساسي للزيارة، وكل ما تلاها من زيارات لا تعدو كونها ثانويّة وضمن إطار البروتوكول الذي يمرّ عبره بعض الرسائل السياسيّة ذات الشأن.
وقد أجرى الوزير عدّة مؤتمرات صحافيّة مصغّرة، شدّدَت على دعم ايران للقضية الفلسطينيّة، والوقوف إلى جانب “أهلنا في غزة المجاهِدة”. وفي الختام، ظهر يوم السبت، أقام عبداللهيان مؤتمرًا صحفيًا مطوّلًا، أجاب فيه عن أسئلة الصحافيّين، والتي حاولت بأغلبها الحصول على موقف حزب الله من الأحداث، وما هي نيّته للأيام المقبلة وبماذا يفكّر السيد نصرالله وماذا يريد أن يفعل؟. لا شكَّ أن هذه الأسئلة تشغل بالَ الجميع، ليس في لبنان والمنطقة فحَسب، إنما في كل أرجاء العالم. بماذا يفكّر الأمين العام لحزب الله؟
ليس خافيًا على أحد أن حزب الله يشكل نقطة الوَصل لكافة محور المقاومة، وله التأثير الأكبر في التوَجُّهات الاستراتيجيّة، ومما لا شك فيه أن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، يمتلك قدرة التأثير الأعلى على طول المحور، من طهران إلى صنعاء، وهو الشخصية “الجهاديّة” رقم واحد فيه.
بالعودة إلى المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية الإيرانيّ، كان بارزًا قوله أن “السيد نصر الله رجل الميدان، ولطالما كان له الدور الأبرز في تحقيق أمن لبنان والمنطقة”، وفي ردٍّ آخر، قال عبداللهيان إن “الإعلان عن ساعة الصفر لأي إجراء مقبل في حال استمرار جرائم الاحتلال هو بيَد المقاومة”. حمل خطاب الوزير، المعروف بتقنيّته الدبلوماسيّة، سقفًا عاليًا من الرسائل التي تتخطّى الميدان الدبلوماسي، لتلامس الميدان العسكري لقوى المقاومة، خصوصًا مقاومتَي فلسطين ولبنان. وكان بارزًا للوزير حين هدّد، بطريقة دبلوماسيّة، أنه يجب على جميع القوى الدولية والعربية المعنيةّ ايجاد حَلّ فوري، لأنه ربما “غدًا يكون قد فاتَ الأوان”، هذا “الأوان” بالذات هو ما تَنتَظِره كل الساحات، وساعة الصفر المحدَّدة من “الضاحية” هي التي ستغيّر كل المجريات، ولا فعاليّة للاستفاضة بالتحليل لما يجري من دونها.
لأول مرّة يتكلّم الوزير الايراني بهذه النبرة، خصوصًا أنها تحمل الكثير من الرسائل، للأصدقاء أولًا، أن ايران لن تَتَخلّى عن المقاومة، وثمّ للأعداء أن ما ينتظرهم، إذا ما أصرّوا على مخَطَّطِهم، جحيم متعدّد الجبهات، يُنبِئ بإعلان بداية النهاية الفعلية لكيان الإحتلال الجاثم على أرض فلسطين منذ أكثر من 7 عقود ونصف.
وفي خطوة لإشباع “حشريّة” الصحفيّين لتَلَقّي إشارة ما، لما يفكّر به حزب الله، نَوّهَ الوزير أن “أي خطوة ستقوم بها المقاومة الاسلامية في لبنان ستكون بمثابة زلزال لإسرائيل”. وهي عبارة تدلّ على ما تمخّض من لقائه مع الأمين العام للحزب، وما كان محور اللقاء. وهذه دلالة على أن الوزير جاء بمهمّة “فوق” العادة الدبلوماسيّة، بل هي مهمّة تحمل طابعًا جهاديًا لدرس الخطط الموضوعة والتحرّكات المستقبلية لمواجهة حرب العدوّ على غزة، كما وتثبيت خطوط الحمر وإلحاقها بالنشاطات الموازية لكلٍّ منها، والتي يبدو أن غرفة العمليات في الضاحية تشكّل مركز انتقائها وإدراجها على أجندة المحور للأيام المقبلة.
الأيام المقبلة تحمل الكثير إذا ما أصرّ العدوّ على غاياته “السرياليّة”، لكنها الإجراميّة والجنونيّة في الوقت نفسه. وإن زيارة وزير الخارجية الايراني إلى المنطقة في هذا التوقيت، بالتزامن مع وصول وزير الدفاع الأميركي إليها، وقبله وزير خارجيّتها، تدلل على أن الأمور ربما متّجهة نحو السخونة في المنطقة، وربما تتدحرج نحو التصعيد الذي يشمل منطقتنا بأسرها، كل هذا رهن الأيام المقبلة، وما سيحمله الميدان في غزة ومدى جهوزية المقاومة فيها، لكن مما لا ريب فيه، أن المقاومة الفلسطينية قادرة على المواجهة، وعلى تحقيق نصر جديد، استراتيجيّ هذه المرة، بشكل حَتمي