عفيفة نور الدين – خاص الناشر |
بعد أن تحصّن داخلَ بيتٍ في مدينة البيرة، اشتبك الأعرج مع القوّات الإسرائيليّة المهاجِمة حتى نفاد ذخيرته إلى أن استُشهِد تاركًا وصيّةً تتجلّى فيها معاني التّوحيد والعودة إلى الله عبر الّذات، أي إلى أساس الذّرّة الّتي تكاثرت فكوّنته، حيث التّراب معدنها ومتلقّيها بعد قرار الرّحيل.
من بينِ بقايا الرّصاص والكتب المبعثرة في مكان الاشتباك، تتجلّى مقولة العظيم الخمينيّ “عبدتَ الله لمدّة خمسين عامًا، تقبّل الله عملك، اذهب واقرأ وصايا الشهداء لمرّة واحدة”، مرّة واحدة كما الخطوة نحو الألف ميل، حيث يتركّز في الحواس مضمون اليقظة والرّجوع إلى الخلق الأوّل.
“وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا، وجدتُ أجوبتي…”. رسالةٌ خلُص إليها بعد أن ترك الشّهيد باسل مقالات وأبحاثًا وخواطر للذّاكرة الفلسطينيّة والعربيّة تاركًا عنوانًا عريضًا لابن فلسطين “عِش نيصًا وقاتل كالبرغوث”.
يُكمل الأعرج ليوضّح أنّ النّيص حيوان ليليّ يعيش تحت الأرض داخل جحر وله مداخل ومخارج عدّة، وأنفاق طويلة جدًّا يفصلها استراحات. وكان قد راقب الفلسطينيّ -ابن بلاد الشّام- نيصهُ جيّدًا حتّى تطبّع بأطباعه فكان أن أصبح نيصًا في عيشه. وأمّا البرغوث فهو يخِزُ ويقفز ثمّ يعاود الوخز ويتجنّب بذكاءٍ شديد اليدَ أو القدمَ السّاعية إلى سحقه، لا يهدف إلى قتل كامل منظومة العدوّ بل إنهاكه وإتلاف أعصابه ومعنويّاته وهذا ما يحتاج إلى الزّمن اللّازم للتّكاثر.
مرّ الزّمن يا باسل، ليُعلِنَ عن خصوبةِ ساعاته إذ ولّد طوفانًا بعد مخاض السّفينة وكانت سني نوحٍ كخطواتِ المقاومين نحو الألف! من طفلٍ درّب ساعده على ثقل الحجارة ودقّة التّصويب إلى رجلٍ ذي بأسٍ يعصب رأسه بعصابة “فلسطين ولّادة”، دخل دخول المالك ، صاحب الأرض، ببسمِ الله مجريها لترسو حيث جذورها، وهو الّذي اعتاد في طفولته على تركيب الأحجية كي تصبح الصّورة كاملة المعنى، فالجذل ما زال حيًّا ينتظرُ الأصيل واللّعبة كبُرت معه وازداد عمقها وفلسفتها.
هو الجواب يا باسل، كتبه التّاريخ بكلِّ يدٍ مضرّجة حين مشت قرية الطّنطورة بعكّازها وهي تتّكئُ على حائط دير ياسين فوصلت إلى حولا الجريحة، تمرّ بين الشّهداء باحثةً عن الحقيقة، وماهيّة البقاء وكيف يبقى اسمها في التّاريخ إن مات أولادها واختفت حدودها! وما السّبيل للوقوف في وجهِ عدوٍّ اعتُقِدَ بأنّه “شيطانٌ له ذيل”. أين الإجابة بين الدّماء إن لم تكن دماء؟
هو الجواب يا باسل، أن تجمع فلسطين في نواتها جزيئات اشتعالها لتنشطرَ فيجمعها أبناؤها وهم يتسابقون مع الزّمن إلى ما قبل التاريخ المطبوع على وثيقة الولادة، فيبدو ابن الثمانية عشر عامًا بعمر القضيّة، ويتصرّف كالشّاهد الحيّ على قتل أجداده فيأخذ بثأرِ من مضى ومن بقيَ فيُخلّدُ ويعمِّرُ في ترابِ الزّيتون.
استيقظنا يا باسل في السابع من تشرين الأوّل على شعور تخطّي أزماتنا الخاصّة واستصغارها في مقابل “الوجود”. ليتك شاهدت خطواتهم كتلك الّتي سُطّرت في عمليّة “صدى الأقصى” في مزارع شبعا المحتلّة عام 2000، بأسُهم كبأسِ أبناء الرّضوان في خلّة وردة، فزعتهم لإحياء الحقِّ وأهله. تجسّد فيهم ما قاله رسول الله النّبيّ محمّد(ص) لوليّه أمير المؤمنين (ع): “إن الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سلخها…”.
مُزّقت كلُّ الاتفاقيات وصفقات البيع، وصيغت عبارة “الجنّة تحت ظلال السّيوف” على هويّات البواسل الّذين وجدوا أجوبتهم وهم ينقّبون عن عكّازة الطّنطورة في المقابر الجماعيّة الّتي صادق عليها أوهن البيوت لاعتقاده بأنّ الأثر يُمحى.
خسئ، بل يُخلّد.