النَخبة “الأكاديميّة”: هكذا جَرَّد الغرب النُّخَب العلمية من العِلم!

“كل شيء ينبغي أن يكون في أبسَط أشكاله، لكن لا يجب أن يكون أبسط مما هو عليه”
آينشتاين

تلعب الصروح الجامعية دورًا محوَرِيًا في “تَصنيع” النُّخَب العلمية التي ستخوض داخل ميادين النشاط البشري المُتَنوّع، والمُمتَد نحو الثقافة والسياسة والاجتماع. لا يقتصر دور الجامعة على الإمداد المعرفي ضمن سياق علمٍ معيَّن، إنما تعمل على إعداد شخصية بشرية تمتَلِك خصائص وسلوكًا يَتَكامَل بعضه مع بعض، لِيَتَكَوَّن على إثرها شخصية علميّة يَتَعدّى دورها حقل التَخَصُّص البَحت، لِتَشمَل الوعي الفردي والفِكر، اللذين يندرِج تحتَهُما سلوك بشري ناشِط وفعّال.

بِدَورها، لم تَعُد الجامعات مجرّد منشآت تعليميّة فقط، إنما أصبَحت الجامِعات أداةً وظيفيّة داخل النظام الليبرالي العالمي المُهَيمِن على مفاصل الاقتصاد والسياسة. أصبحت الجامعات في عالمنا الراهن خاضعة لإرادة الشركات المُمَوِّلة من دون امتِلاكها أدنى هوامِش المناورة. لقد صار الطالب الجامعي، بعدما أضحت الجامعة “ماركة” تُسَجَّل باسم الشركات التي تُمَوِّلُها، سلعة استهلاكية للشركات الصناعية الكُبرى، فانحَرَفَ بذلك الأصل الروحي للمعرفة، وانَحَرَفت معه مداميك الثقافة البنّاءة التي يجب أن تبني المجتمعات على ثوابت سليمة وقِيَم صلبة.

لقد التَحَقت الجامعات، منذ اللحظات الأولى، في رَكبِ الامبراطوريّة المُهَيمِنة، وارتَضَت أن تكون وسيطًا إعداديًا للكادر البشري المُطيع والمُنصاع لأمر المخطّطات “الإخضاعيّة” التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركيّة وتحت جناحها دول الغرب. وهي –أي الجامعات- تخلَّت عن دورها السامي في صناعة “الحياة”، لِتَمتَهِن دور صناعة “السُّلع” والخدمات.

انتَهَجَت الإمبريالية العالمية مسارًا عمليًا لإخضاع عقل الأكاديمي والباحث في المؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة، عبر إجراء عملية تفريغ المحتوي الذاتي لدى الفرد “المُحَقِّق” في ميدان الأكاديميا، بحيث يصبح الأكاديمي فردًا تابعًا داخل المؤسّسة التَعليميّة بدايةً، والتي يمتَهن المهنة داخلها لاحقًا، من دون امتِلاك كيان “فكري” فعلي. وهي عملية تبدأ حينما يقرّر الفرد الانضمام إلى مؤسسة أكاديميّة معيّنة تكون مُرتَهَنة للشركات الكُبرى، وتنفّذ ما تطلبه الأخيرة منها، تُرَوِّج لمشاريعها، وتُغطّي الإعوجاجات “الليبراليّة” التي تنتُج عن النشاط التجاري داخلها.

حين تقرّر الانضمام إلى مؤسسة أكاديميّة، تظنّ نفسك فردًا استثنائيًا بمجرد التِحاقك بتلك المنظّمة “الرائدة” داخل المجال الأكاديمي، وهي قناعة وهميّة تجعل المسار الفكري غارقًا في دوّامة مزيّفة “صُوَرِيّة”، وتبدأ ساعتذاك مسيرة الانحدار الذهني – التَّثقيفيّ.

بخطوات دقيقة ومحسوبة، يباشِر “الباحث” الاكاديمي فقدان ذاته المهاريّة، وتصبح خلفيّته المعرفيّة أداةً طائِعة لتنفيذ مسار معرفي مُنحَرِف كما تبتغيه المؤسسات التابعة للنظام الهَيْمَنِيّ. تلك الأخيرة تَسيَطِر على الجامعات بدايةً، ثم تجعل كل الجهد الأكاديميّ مُنصَبًّا على خدمتها. عندئذٍ، يفقد السلّم العلمي معنويّاته، وبدل أن تكون الآلية الأكاديميّة وسيلة لتصويب البناء الثقافي لدى المجتمعات والأُمَم، تَغدو عملية لتشويه العقول وإرساء الفكر المنحرف. كل ذلك يَصُبّ في النهاية لخدمة المشروع الأميركي الغربي لاستعباد عقول البشر وجعلهم كيانات فردية هشّة لا تمتلك أدنى مقوّمات الفكر التَحَرُّري الذي يواجِه مشاريعهم الاستعمارية.

إذًا، بعد امتِثال الفكر الأكاديمي للفرد الخاضع داخل منظمة أكاديميّة تابِعة، تَتَكَوَّن لديه أهداف لا قيمة لها ولا تعطي ثمرًا إضافيًا في السياق الاكاديميّ، فيصبح المُراد دائمًا السعي نحو ما قد يكون في المستقبل فرصة مزدهرة “أكاديميًا”. ما يعني، كخُلاصة، يصبح الإنسان عبدًا يلهث نحو الوصول إلى مرتبة “لن يصل إليها” أبدًا.

تَسطيح العقول
بعد عملية الإخضاع تلك، يصبح الفرد مُنصاعًا تمامًا ولا يمتلك السيادة الفكرية ولا حرية البحث، وتصبح بحوثه تقنيّة بحتة فارغة من الاهداف العلميّة السامية، ولأجل إثبات نفسه الفردية فقط بهدف الارتقاء المهني لا لشيءٍ آخر. وهذا مسار خالٍ من الغايات الاستراتيجيّة، بحيث تقتصر مقاصده على “الإنجاز” الذاتي، وتُنَمّي لديه روحيّة الفردانيّة وبالتالي عدم الالتفات إلى مُتَطَلِّبات المجتمع الثقافية والفكرية، بل على العكس، يُسهِم في تسطيح الوعي المجتمعي وتبسيط القضايا القِيَميّة لديه، ومن ثم تَشتيت العقل الجمعي وتفريغه من أي محتوًى تَحَرُّري منيع.

يكتب هنري أرفون في كتابه “فلسفة العمل”: “نشاهد ازدِهارًا موصولًا لأساطيرَ جَوفاء، ولأهواءٍ جمعيّةٍ غير معقولة، ولتزييفات عقائديّة دامية”. ويُكمل: “ثَمّة مذاهب عابرة تطرح نفسها على أنها حقائق مطلقة، وتزعم أنها توجّه حياة البشر، وهي وليدة فكر التجمّع وتحمل علاماته: التبسيط”.

وفي كتاب “نظام التفاهة”، يقول آلان دونو: “الحقيقة هي أن كل ما حولنا يشي بتسطيح الهام وتسخيف المُعْتَبَر، من خلال الاستخدام المبالَغ فيه للخطاب الساذج، بدعوى التبسيط. والحقيقة هي أن هذا التبسيط، يمكن أن يصل إلى درجة لا يُرتَجى منها التطور العقلي المجتمعي الصحي، بل يصير مهدّدًا له”.

الطامّة الكبرى تكمن في أن ذلك الإنسان، الذي أصبح إنسانًا آليًا، يسيطر عليه الغرور الأكاديميّ، ويظن نفسه أعلى مرتبة من عامة الناس، وحتى في مراتب أعلى إذا امتَلَك “امتياز” الانضمام إلى منظمات غربيّة “رائدة” في مجال البحث والأكاديميا، فيطغى “الإيغو” على ذلك الفرد المُتَمَثّل بهَيئة الآلة المُسَيَّرة. وهو في الحقيقة ليس أكثر من شخص مغفّل تخلّى عن روحيّة العلم من أجل بعض المال والجاه الغربِيَّين.

في النطاق الفكري، عندما يكون المُفَكِّر أو الباحث مأجورًا، فهو فعليًا عاطل عن العمل، وعاطل من الأهداف القِيَميّة لعمله. وهكذا عطَّلت الاقتصادات الكُبرى، والشركات مُتعَدّدة الجنسيات، الآلاف من المفَكِّرين عن العمل، حيث أطَّرت نشاطهم لمصالحها ولِصالح توسّعها وسيطرتها.

إن تجريد العقل من قضاياه المُحِقّة الرفيعة، يجعل المثقَّف خائنًا لمُجتَمَعِه وأمّته، يجعله موكلًا عن الدول الاستعمارية داخله وطنه. وهو خائن من الدرجة الأولى، وبشكل منَمَّق ومرتّب يغطي تحته قذارة الفكر “المستورَد” واستخدامه ضد أهل بلاده وشركائه في القضيّة.

وفي الختام أقتبس عبارة لأحَد الكُتّاب الذي لا أتذكّر اسمه، حيث يقول: “إن الحرية التي يحتاج إليها المثقف ويحارب من أجلها، تجعله أمام مسؤولية حرية الشعوب التي يجب أن يحارب من أجلها، وأن لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا سيما أن هذا الامر يسهّل على من يريد أن يفرض شروطه الثقافية على المثقَّف، لتصبح الثقافة معلّبة بقالب من الشروط المرهونة بالمال”.

اساسي