حيدر الموسوي – خاص الناشر |
الذاكرة الأولى
أول ما يتداعى إلى ذهني في علاقتي مع الإمام الحسين (ع) يعود إلى قرابة عشرين عامًا مضت، إلى الأيام التي كانت تضعني فيها أمي في حجرها وهي تتلو المجلس الحسيني، كطفل صغير كنت أتساءل عن السبب الذي يدفع هؤلاء النسوة إلى كل هذا البكاء والحزن.
كبرت قليلًا فبدأت أمي باصطحابي إلى مجالس العزاء التي تقام في حسينية البلدة. كنت أحدق في جداريةٍ رُسمت عليها كفان مقطوعتان وأصغي إلى توحّد الأصوات الباكية وهي تقول:
يا أبا الفضل العباس، يا حامل لواء الإسلام
يا أمان المساكين، والأطفال والأيتام
يا أبا الفضل، يا أبا الفضل.
عند خروجنا من الحسينية سألت أمي: “متى سيصبح بإمكاني البكاء مثلكم”؟ فأجابت: “إن شاء الله يا ماما بس تكبر”.
الرحلة الأولى
اصطحبنا أبي إلى كربلاء. دخلنا الصحن المقدس للإمام الحسين (ع) وجلسنا تحت القبّة. كنت وأخي الصغير نتنافس في من ينهي قراءة الزيارة بشكل أسرع. بينما نحن كذلك نهض أبي واتجه نحو شباك الضريح المبارك. بادرت سريعًا للّحاق به وصرت أراقب كل أفعاله؛ رأيت جسده يهتز وعينيه تفيضان بالدمع. لم أصدق ما حصل للتو، أبي يبكي! الرجل المعروف بصلابته وحزمه، والذي لم أكن قد رأيت دمعته قط أضحى مكسور الخاطر أمام ضريح شخص استشهد قبل أكثر من 1400 سنة!
قبل المغادرة، تمتم أبي بكلمات لم أستطع الإصغاء إليها، لكنني أدركت حينها أن علاقته بالإمام الحسين لا تشبه علاقته بأحد، إنها علاقة فريدة خاصة.
الرحلة الثانية
بعد عدة أعوام قصدت كربلاء. دخلنا الفندق وجلسنا للاستراحة. تبادلت الحديث مع أحد العمال الباكستانيين. شرح لي عن مدى المعاناة التي يعيشها، فدوام العمل طويل جدًا والجهد المبذول كبير، إضافة إلى أن لقاءه بعائلته قليل جدًا حيث إنهم يستقرون في باكستان. وبعد أن استرسل العامل في سرد مشاكله تنهد وقال: “لا بأس، كل هذا يزول عندما أقصد الحرم الطاهر آخر النهار”. نعم، لا مانع لدى هذا العامل من الابتعاد عن أهله، فالحسين (ع) هو أهله.
الحسين موحّد القلوب
لا تعد الحالات التي ذكرتها حالات فردية خاصة، فكل متتبع لسيرة أهل البيت لا يستطيع إلا أن ينظر بعين الحب والأسى لشخص بذل ماله ونفسه وولده في سبيل حفظ الدين وكرامة الإنسان، إلى رجل كان بإمكانه أن يعيش حياة “هانئة رغيدة”، وأن يتنعم بزينة الدنيا بمجرّد أن يقول جملة واحدة “أنا أبايع يزيد بن معاوية”، لكن الرجل الكبير أبى ذلك، رفض الاستكانة والانجرار للساحة التي يتصارع فيها الناس على الدرهم والدينار، ابتعد هذا العظيم عن معارك الطين والأرض، وسلك دربًا آخر استعد فيه للموت مقابل قضية المسلمين المحقة. نظر سيد السّادات إلى أصحابه يتساقطون أمامه الواحد تلو الآخر، إلى أبنائه تقطع أجسادهم. قبل عروج روحه بلحظات، رمى بطرفه نحو الخيام فوجد النيران تستعر وبناته يُعتدى عليهن وتسرق حليّهن وأساورهن، لكنه مع كل هذا لم يتراجع عن مبدئه. الرجل الذي ظل وحيدًا بلا ناصر ومعين يتوجه إليه اليوم 22 مليون زائر، الطريق الذي كان يتعرض فيه سالكوه لأقسى أنواع التعذيب والملاحقة أضحى طريقًا يسيرًا يتسابق فبه الآلاف لخدمة الزوار، والبقعة التي حُرم آل الله فيها من الماء تجود اليوم بالمياه العالمين.
زيارة الأربعين فرصة نهضوية
يختلف العلماء حول ما إذا كانت زيارة الأربعين زيارةً منصوصًا عليها من قبل الأئمة، فالبعض يؤكد ذلك في استناده إلى بعض الروايات فيما البعض الآخر يرى أن الزيارة لم تثبت بعنوان خاصٍ لكن لا مانع من تأديتها بالعنوان العام في هذ التوقيت. إذًا فالجميع اتفق على أهمية هذا التجمع المليوني الهائل الذي يسعى حثيث الخطى نحو شخص واحد وهو الحسين (ع).
في هذه الأيام، وفي الوقت الذي نجد فيه أمواج العشق تسير نحو إمامها، حبذا لو نفكّر جميعًا في كيفية وضع برامج نهضويّة واعية توعوية وتبليغية، لتحويل زيارة الإمام الحسين عليه السلام ـ وغيرها ـ إلى مؤتمر إسلامي شعبي واسع لكلّ المؤمنين الحاجّين إليه من أرجاء المعمورة، فتزدان الطرقات المكتظة بالزوار بمحافل الأدب والشعر والنثر الحسيني والثوري، مرفقة بالبرامج الدينية والاجتماعيّة، وبحلقات التوعية الثقافية، وبجلسات العبادة والروحانية، وبلقاء المرجعيات والشخصيات الكبيرة مع الناس والجماهير، تستمع إلى همومها وقضاياها وتتواصل معها وتعظها وتوجّهها، كما كانت عادة أئمّة أهل البيت في كلّ عام في الحجّ والعمرة.
إنّ هذا الأمر بات ضرورةً اليوم للمزيد من الاستفادة من هذه المناسبات الدينية، وعدم تركها تمرّ دون أخذ أقصى أشكال التزوّد منها للجميع. إنّنا بحاجة إلى المزيد من ترشيد مناسباتنا الدينية وتأمين أفضل توظيف نافع لها في قضايانا الاجتماعية والسياسية والأخلاقيّة.