خلال انعقاد مؤتمر التنمية والسكان، برعاية الأمم المتحدة عام 1994، في مدينة القاهرة، ذُكِرَت كلمة “جندر” 50 مرة. وفي العام الذي تلاه، وضمن مؤتمر بكين حول المرأة، كَرَّر المجتمعون كلمة “جندر” 233 مرة. ومذّاك، كان المسعى في إرساء ذلك المصطلح في الوعي الأُمَمِي، وخصوصًا في المنطقة الجنوبية من العالم، التي انعقَدَ فيها المؤتمران المذكوران، بغية تكريس مسألة الجندر داخل الإجتماع العربي والشرقي.
والجندر، كاصطلاح، هو “النوع الاجتماعي”، والمقصود به تعريف جنس الإنسان كنوع إجتماعي بعيدًا عن الطبيعة البيولوجيّة. وقد وُظِّف مصطلح الجندر في إطار قضية حقوق المرأة و”تمكينها”، وصار “الجندر” قضيّة بحدّ ذاتها، تحمل لواء المساواة والحريّة للنساء، وغدا مفهوم “تمكين المرأة” مشروعًا يحمل أبعادًا ثقافيّة واجتماعية، وأُطِّرَت قضيّة المرأة داخل نطاق “تَحَرُّري” مزيّف، وأُدخِلَت ضمن المشروع السياسي الغربي الشامل، والذي يسعى إلى السيطرة على العالم وتنمية رأسماليّته على حساب دعائم الحياة الإنسانيّة الطبيعيّة والمُستدامة، وعلى رأسها “الأُسرة”، التي تُمَثِّل بدورها البنية التأسيسيّة للعلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة.
إن النظام الإقتصادي العالمي، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الاميركية، والمتمثّل بالمنظومة الرأسماليّة التي تُسَيِّر سلوك البشر تجاه الاقتصاديّات الكُبرى، وتُرَوّج لثقافة الاستهلاك اللامحدود، ينظر إلى الكائن البشري بوصفه أداةً لتنمية ثروات الشركات الكُبرى وأصحاب رؤوس الاموال المُسَيطِرة على البسيطة العالمية، حتى أطلق على المجتمع الإنساني صفة “مجتمع السوق”، وهو مجتمع يُحكَم على أعضائه بوصفهم مستهلكين فقط. والمُخَطَّط الدائم هو إنشاء بيئة لا تتوقّف عن الاستهلاك والإنفاق، عبر تحفيزها على إشباع رغباتها الماديّة، وإقناعها بأن ذلك سيؤدي إلى صناعة سعادتها، وهي بطبيعة الحال سعادة وهميّة لا تمت إلى الواقع بِصِلة.
استِنادًا إلى تلك الخَلفيّة، وعبر صياغة مسار “التمكين”، طغى على المناخ العام لقضيّة الجندر، صَخَب المناداة يخروج المرأة نحو ميدان العمل و”ترك” المنزل، لا بل التَخَلّي عنه. ودُعِيَت المرأة، تحت شعار التمكين، إلى الاستغناء عن التشارُك مع الرجل، سواء كان أبًا أو أخًا أو زوجًا، بذريعة الاستقلال المادي عن الرجل، الذي يجعلها، وفق ما تراه أدبيّات الجندر، مُحَرَّرة من وطأة “الأسْر” الذي يمليه عليها وضعها العائلي، كأُنثى، وموقعها الأسَريّ، كزَوجة وأُم. وكذا أصبحَت قضية الجندر، عبر إدّعاء تمكين المرأة، خَطبًا “ثَورِيًا” ومسألة تَحَرُّرية، في تحريف واضح لأصل الدعوى الإنسانيّة التي فَطِرَ الله عليها البشر.
من خلال ذلك المنظور الاقتصادي البَحت، من دون مراعاة الاعتبارات العاطفيّة والنفسيّة، صارت تُعَدّ الأمومة عملًا غير مدفوع الأجر. وقد رأى الأمين العام السابق للأمم المتّحدة، بان كي مون، أن عمل المرأة خارج المنزل، يجعلها في موقع تفاوضيّ أفضل داخله. إضافةً إلى نظرة “النسويّات” الغربيّة، التي تعتبر أن كل الإساءات التي تَتَعَرّض لها النساء، كانت نتيجة أنهُنّ لم يكنّ مَسَيطِرات على دَخلِهِنّ الخاص.
عندما تخرج المرأة إلى ميدان العمل، ويصبح دخلها المالي ذاتيًا، من دون الحاجة إلى ربّ الأسرة المسؤول عن إعالتها (بالمعنى المادي)، وهو الرَجُل؛ إلى جانب الدعاية الغربية والترويج للإستهلاك من دون حَدّ؛ كل هذا يجعل المرأة آلة إنتاج من جهة، وأداةً للإنفاق غير المُقَيَّد من جهة أخرى، وهو مجرًى يصبّ بالنهاية في صناديق الاقتصادات الكُبرى التي تُسَيطِر على العالم. ولثقافة الاستهلاك هذه موضوع آخر، وهو مشروع قائم منذ قرون عدّة، لكن هناك عائق يظهر في الشِقّ المتعلّق بالمسار الإستهلاكي لدى المرأة، إذ إن الطبيعة البشرية تُقَسِّمُ الأدوار بين الرجُل والمرأة داخل إطار الأُسرة، وتجعل الرجُل مسؤولًا عن العمل خارج البيت وإعالة أفراد أسرَتِه من المردود المالي الذي يستَحصِل عليه لقاء انتاجيّتِه، وللمرأة الدور الأبرز داخل الأسرة، تعمل في حقل التنمية والتنشئة الأُسَريّة. وأفراد الأسرة هو موفَدون إلى الخارج نحو المُجتَمَع في ما بعد، بذلك تكون مهمّة المرأة “الفطريّة” تكمن في تنشئة المجتمع وتجهيز أرضيّته كي يكون صالحًا، ولها الدور الأبرز في تربية المجتمع الإنساني بالاستراتيجيّة العامّة.
جَرَّدَت أدبيّات الجندر والأمم المتحدة “الأمومة” وعمل الأُم داخل المنزل من أي دور تنمَوي، لأنه لا يُنتِج أجرًا ماديًا. ويندّد صندوق النقد الدولي بعمل المرأة في بَيتِها “غير المدفوع الأجر”، بكل بساطة لأن الأمر مكلف بالنسبة إلى الصندوق، وهو يؤدّي إلى انخفاض الانتاجيّة وضياع فرص النموّ الاقتصادي. يستخدم خبراء صندوق النقد تعبير مَحرّكات “التحرير” لتغيير وضع المرأة المنزلي، من خلال تعزيز قدرتها على العودة إلى العمل بعد الولادة بأسرع وقت ممكن. هكذا تنظر الامبراطوريّة إلى الناس، على أنهم وسيلة لجني الأرباح وتضخيم الثروات، مهما كانت التبعات مدمّرة على النهج الإنساني، ومن دون إيلاء أي اهتمام إلى الشِقّ الفِطري والأخلاقي. المهم أن يُستَدام حُكم الرأسمالية ومشروع السيطرة على العالم بما فيه.
يرى الباحث المتخصص بالشؤون الاجتماعية والسياسية الدكتور طلال عتريسي في كتابه “الجندر المخادع”، أن الثقافة التي تُفَضّل البُعد الاقتصادي على أي بُعد آخر: تربوي أو نفسي أو أُمومي؛ والثقافة التي تقوّم عمل المرأة وتحدّد قيمتها بما تنتجه من مال، وتحسب عملها الأمومي بلا قيمة، هي في الواقع ثقافة الشركات والمؤسسات، وثقافة السوق والعرض والطلب، وتلك التي أدّت، بحسب عتريسي، إلى إعادة صياغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الإقتصادية، وهي عنصر أساس في منظومة الحداثة الغربية، زاد معه تَسَلُّع الإنسان وتشيّئه. ويضيف في محاولة لتأصيل مكامن الأزمة، أن “التطوّر الأبرز الذي غيّر وجه العالم الغربي، وغيّر في طريقه وضع الأسرة في المجتمع الغربي ووضع النساء، ويثير بعد ذلك الأفكار والأسئلة حول من ينتج ومن لا ينتج، هو الثورة الصناعيّة التي حصلت في القرن الثامن عشر”.
التَقَطَت الشركات والمصانع الكُبرى حول العالم، التحَوّل في التفكير عند النساء داخل المجتمع، وقامت بالتركيز عليه وتحويله إلى فكرة تجارية مربحة، وقد ساعد في ذلك وسائل الإعلام والنُخَب الإجتماعيّة التي تخدم لدى المعسكر الغربي، وأصبحنا نرى المنتَج الموحّد الذي لا يحتوي على الهوية الجنسيّة (UNISEX)، وكان “الجينز” واحدًا من أبرز تلك النماذج التي لاقت رواجًا وانتشرت على امتداد البلدان وما تحتويه من شرائح مجتمعيّة تلقّفت هذه المنتجات وسارت في الركب الاستهلاكي “التطبيعي” مع فكرة الجندر.
إزاء تلك النظرة التي تحتَقِرُ المرأة، من قِبَل المجموعات الجندرية والنسوية التي تَدّعي “تمكين” المرأة ورفع قضيّتها الحقوقيّة، والمؤسسات الأُمَمِيّة، أصبحت المرأة التي تُنتِج ليست إنسانة، وهذا ما تسعى الرأسمالية إلى ترسيخه في عقول النساء حول العالم.
لهذا، صوّر لنا حاملو لواء “النَسَويّة”، أن العلاقة بين الرجُل والمرأة في الأسرة، هي في صراع وتنافس دائِمَين، أحدهما يريد أن يتحرّر (المرأة) والآخر يريد أن يبقيه سجينًا (الرجُل)، كحال الصراعات الدائرة على طول العالم اليوم. هذا ما يريد الجندر تقديمه لنا وتصديقه، وهذه القضية “التحرُّريّة” المزيفة لا تكتمل إلا يتَفتيت معالم الاسرة وإلغاء العلاقة التكاملية بين أفرادها بدءًا من الأُم والأب ووصولًا إلى الأبناء. وهذا ما يريده الغرب في مشروعه التَدميري، سلخ المنظومة القِيَميّة عن شعوب أمّتنا، وتحريف مباني قضايانا الإنسانيّة، يريدون القصاء علينا، وأن يجعلونا كيانات آليّة تتحرّك بطاعتهم فقط، وتخدم عندهم. أميركا والغرب، مستعدّان أن يحرقا الدنيا بمن فيها، من رجال ونساء وأطفال، وأن يصيغا القضايا حسب أهوائهما، المهم عندهما أن لا يفقدا الهَيمنة، وأن تبقى يدهما هي الطولى في هذا العالم.