حيدر الموسوي – خاص الناشر |
من يقرأ الصفحات التي دوّنها السيد موسى الصدر مقدّمة لكتاب “تاريخ الفلسفة الإسلامية” الذي ألّفه الفيلسوف والمستشرق الفرنسي “هنري كوربان”، يستشعر ذوقًا علميًا رفيعًا في كلماته، يدفع القارئ للغوص أكثر في معالم شخصية السيد. فنحن أمام شخصية استثنائية أخذت حيزًا واسعًا في العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين، ورغم الشهرة التي اكتسبها السيد الصدر والتناول الإعلامي والتوثيقي الكبير له، إلا أن الجانب العلمي أخذ مساحة ضيقة وغير كافية في قراءته.
كيف نتلقف ذلك؟
إن جولة بسيطة في ما تم تأليفه من كتب، وما تمت كتابته من مقالات، وما تم إنتاجه من وثائقيات، وفي تحليل لمضمون الخطابات التي يُذكر فيها السيد موسى، يجد المتتبع فجوة هائلة في حجم الكلام عن السيد موسى “السياسي الاجتماعي” مقابل الكلام عن السيد موسى “العالم”. أغلب ما ذُكر مرتبط بإنجازات الصدر في ميدان السياسة والاجتماع، عن جهوده في تحسين وضع الطائفة الشيعية ورفع الحرمان عنها، عن دوره في ترسيخ العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية… لكنك نادرًا ما ترى متحدثًا يتناول نتاج السيد الصدر العلمي، خلاصة آرائه الفقهية والكلامية وما إلى ذلك.
دراسة الصدر الدينية في إيران
ينتمي السيد موسى الصدر إلى عائلة علمية عريقة، فهو نجل المرجع الديني السيد صدر الدين الصدر، وهذا ما دفع به إلى الالتحاق مبكرًا بالحوزة العلمية في مدينة قم، ليتتلمذ على يد كبار علمائها أمثال “السيد صدر الدين الصدر، السيد البروجردي، السيد الطباطبائي والإمام الخميني”. وبعد أن طوى الصدر مراحل الدراسة الأولى استمر في دراسته ليصل في فترة زمنية قصيرة إلى مرتبة الاجتهاد. وإلى جانب دراسته كان السيد الصدر يقوم بتدريس طلاب المرحلة الأولى والثانية مادتي الفقه والمنطق.
شهادة مثيرة للاهتمام من السيد موسى الشبيري الزنجاني
بطبيعة الحال لمس أقران السيد موسى ذكاءه الحاد. يعبر عن ذلك المرجع الديني السيد موسى الشبيري الزنجاني (وهو زميل دراسة الصدر أيام الصبا) بقوله: “لو كان السيد موسی حاضرًا لكان وضعي العلميّ أفضل كثيرًا من الآن؛ لما كانت تمتاز به مباحثتي معه من خصائص، لا توجد في أي مباحثة أخرى”.
يورد السيد الزنجاني العديد من الخصال التي امتاز بها السيد موسى نذكر منها:
- كان السيد موسى الصدر سريع البداهة والانتقال من فكرة إلى فكرة
- ما ميز السيد الصدر هو كونه مستقيم الفكر، عرفيًا في الفهم ولديه بيان واضح لا لبس فيه.
- حاز في الإنصاف قصب السبق والمرتبة الأولى، وكان مؤدبًا جدًا لا يتعامل بحدية مع الأمور، ولا يرفع صوته أو يستخدم تعبيرًا مخالفًا للأدب والحشمة.
- امتلك فهمًا صافيًا غير مشوش ولا مشوب، يقبل النّقد ويسلّم به.
- كان تفكيره قريبًا جدًا من تفكيري، فما كنت أحتاج فيه لأسبوع في مناقشة الآخرين كنت أصل فيه معه إلى نتيجة خلال عشر دقائق فقط.
- في الوقت الذي كنت أحتاج فيه إلى وقت لتنظيم مجموعة أفكار حول موضوع معين، كان السيد موسى ينجز ذلك كله في اللقاء الأول، أي أن سرعته في الهيمنة على الموضوع كانت فائقة.
دراسته الأكاديمية وتأسيس مجلة “مكتب إسلام”
لم يكتف السيد الصدر بالدراسة الحوزوية، بل دخل إلى جامعة طهران كأول رجل دين معمم، ليحصل منها لاحقًا على إجازة في الحقوق الاقتصادية. وما يُلفت النظر هو ثناء أساتذته الكبير عليه، وعلى سرعة فهمه لمطالب مرتبطة بالنظريات الماركسية، ما يؤكد ذلك لجوء الطلبة الشيوعيين إليه كي يشرح لهم ما عجزوا عن فهمه أثناء المحاضرات.
ومن أجل أن لا يبقى الدين حبيس الحوزات شرع السيد في تأسيس مجلة “مكتب إسلام” (بعد عودته من النجف الأشرف) وترأس تحريرها محاولًا التداول في الشؤون الثقافية العصرية. وكان لهذه المجلة، وهي أول مجلة ثقافية إسلامية صدرت في الحوزة العلمية في مدينة قُمّ، أثر مميز في تشكيل الوعي النهضوي في إيران. إضافة إلى ما سبق، شارك السيد الصدر مع بعض العلماء في تدوين مشروع إصلاح المناهج العلمية في الحوزة والذي تم تقديمه إلى المرجع الأعلى في قم آنذاك السيد البروجردي.
الدراسة في النجف الأشرف
قصد السيد موسى مدينة النجف الأشرف بهدف الاستزادة العلمية. وفيما يُنقل أن السيد الخوئي في بعض دروسه كان يسمح فقط للسيد موسى الصدر بطرح الإشكالات عليه في دلالة على قيمته العلمية العالية. وفي النجف كان السيد موسى يقيم حلقات مباحثة مع المرحوم السيد محمد باقر الصدر يصل التحضير اليومي لها أحيانًا إلى سبع ساعات متواصلة. علاوة على ذلك كان السيد محمد باقر يؤكد اجتهاد ابن عمه وأنه أذكى الفقهاء في المسائل المستحدثة، وكرّر غير مرّة أنه لو بقي السيد موسى في النجف الأشرف لأصبح مرجعًا للشيعة بلا منازع.
إضافة إلى دراسته، ساهم السيد موسى في رفد “جمعية منتدى النشر” وأصبح عضوًا في هيئتها العلمية، والتي كان من اهتماماتها عقد الندوات الثقافية ونشر أبحاثها ودراساتها.
لماذا لا نجد مؤلفات كثيرة للسيد موسى الصدر؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب مراجعة أسلوب عمل السيد الصدر، والذي يوضحه نقاش مع ابن عمه السيد محمد باقر يبرر فيه خروجه من الحوزة نحو لبنان حيث قال: “لا يمكنني البقاء في الحوزة وأن أُرضي نفسي بالعمل داخل الحوزة على الطريقة التقليدية لمن يبلغون هذا المستوى للوصول إلى المرجعية. وإنني أشعر أنّ من واجبي أن أكون بين الناس وأن أبدأ بالتحرك من خلالهم، ولا تكفيني الحركة الفقهية الاجتهادية. كلانا نسعى لهدف واحد ولكن بطريقتين مختلفتين”. هذا ما يؤكد أن أولوية السيد موسى كانت الالتحام بالناس وتحسس آلامهم بطريقة مباشرة دون الانشغال بطرح المرجعية، حيث وجد أن مهمته الأساسية هي إنشاء الجمعيات الخيرية والمعاهد والمدارس من أجل تطوير الإنسان وإخراج الطائفة الشيعية من الهامش إلى صلب الحياة اللبنانية عبر تحويلها من حالة جماهيرية إلى وجود تنظيمي، وهذا ما دأب عليه طوال فترة وجوده في لبنان. وهو بتعبير نجله “قضى عمره متجوّلًا”، بمعنى أن المرحلة اللبنانية التي حضر فيها الصدر كانت تستهلك طاقته ووقته بين لقاء وسفر ومحاضرة وافتتاح؛ فبين طائفة محرومة من أدنى مقومات العيش، إلى أزمات سياسية متراكمة نتجت عنها حرب أهلية أدخلت البلد في صراع مفتوح، لم يتسن للصدر التفرّغ للتأليف والتنقيح وبيان آرائه ورؤاه بصورة منهجية غزيرة واضحة.
نداء ودعوة
من حق أي شخصية أن تحظى بقراءة شاملة لها تتناول كافة أبعادها، فتحلل مكامن القوة والضعف فيها، ومن حق السيد موسى الصدر أن لا تتم قراءته قراءة أحادية، تختصره كمصلح اجتماعي أو زعيم سياسي، وإن كان تناوله بهذه الطريقة ينبع من هدف تحشيدي جماهيري، فإن الأولى هو التعريف الذي لا يسلب جزءًا مهمًا في هذه الشخصية وهو الجانب العلمي فيها.